الجمعة، 9 مارس 2012

أعيدوا للكائن الورقي جناحيه !



كنت أتصفح كتيباً صغيراً في إحدى قاعات المحاضرات بالجامعة حين لاحظت اهتمام زميلتي بما أقرأ ، رفعت رأسي قليلاً فسألتني بقلق : هذا الكتاب يخص أي مادة بالتحديد ؟ أجبتها بأنه كتاب خارجي ، فابتسمت قبل أن تدير وجهها و قالت : " أشوا ! " .

تكرر هذا الموقف مراتٍ عدة في أوقات و أماكن مختلفة ، ليخيب أملي بما فيه الكفاية للتيقن من أن الكتاب ما يزال حبيس فكرة نمطية عنه لا تتعدى كونه وسيلة للتحصيل الدراسي الإلزامي ، أو أداة بيد فئة مخصوصة من المجتمع يسمون بالمثقفين ، بغض النظر عن نوع الكتب التي يقرؤون ، و مدى فاعلية ما يأخذونه عن تلك الكتب في تغيير أنماط تفكيرهم و سلوكهم . بهذا المفهوم يصبح الكائن الورقي ( الكتاب ) عرضة لعلامات الإستفهام المتطايرة حوله من كل جهة حتى يفقد صاحبه شعوره بأحقيته الكاملة في قراءة ما يحب في المكان الذي يحب ، فنحن لا نجد مثلاً شخصاً غريباً يستوقفنا ليسألنا عمّا نأكل و يحقق فيما إذا كان هذا الطعام مناسباً لـ حِميتنا الغذائية أم لا ، لأننا نعتبر سلوك تناول الطعام من القضايا الشخصية لكل فرد و التي يعود الإختيار فيها إليه وحده ، على عكس سلوك القراءة الذي مازال يحبو أملاً في أن تكون له مساحة أكبر من الإنتشار حتى ينال حريته كسلوك شائع و مقبول بصوره المختلفة .

يؤثر إدراكنا لمساحة الحُرية الممنوحة لنا في اختيار ما نقرأ بشكل كبير على اتجاهنا نحو القراءة ، فبمجرد استبدال صورة الكتب العلمية المملة في ذهن أحدهم بصورة رواية أدبية تحمل عنواناً جاذباً ، أو كتيباً يتضمن إجابات موجزة عن بعض الأسئلة حول موضوعٍ ما حتى تلمس تغيراً في توجه هذا الفرد نحو فكرة القراءة ، باعتبارها حاجة أساسية تلبي دافع الفضول و حب الإستطلاع الفطري عنده كما هو الحال عند أي إنسان ، فما الداعي لتقييد أنفسنا بما يشعر الناس بأهمية الإطلاع عليه في الوقت الذي نرغب فيه بالإطلاع على مجالات أخرى محببة إلينا أكثر من غيرها ، ما دام حب الإطلاع سيأتي تدريجياً بالمراحل اللاحقة منه بمجرد اتساع دائرة الشغف و الفضول لمعرفة الجديد في ظل اتساع المساحة الرمادية التي تربط بين الميادين المختلفة للمعرفة .

على صعيد آخر نجد أن هنالك فئة تميل لتخصيص بعض الوقت للقراءة في ساعات الفراغ بالمنزل ، لكن تلك الساعات غالباً لا تتوافر بشكل يومي ، فيعود إهمال القراءة ليأخذ مجراه في ظل زحمة الأعباء ، فما المانع من اصطحاب الكتاب في خروجنا اليومي للدراسة أو العمل ؟ هنالك حتماً ثغرات في الوقت يمكن ملؤها بما يجدي بدلاً من تبادل الأحاديث الجانبية مع الزملاء لدقائق طويلة أو حتى ساعات ، فـ نجد أن استثمار هذا الوقت القصير في فائدة طويلة الأمد كالقراءة يعود على صاحبه بأضعاف أقصى ما يمكن التزود به من حديث عابر، و حتى في هذا الصدد ما يزال هامش الحريّة متاحاً بالرغم من العثرات البسيطة المتمثلة في النظرات الفضولية و بعض الأسئلة و التعليقات التي قد تطال من يقرؤون في الأماكن العامة مثلما تطال أصحاب أي سلوك جديد يظهر في المجتمع حتى لو لم يختلف اثنان على صحته بل و أهميته أيضاً ، و هنا يبرز دور المبادرين في تغيير ساحة أنفسهم قبل الإنطلاق إلى ساحات الآخرين ، تجلياً لقول الإمام علي بن أبي طالب – كرّم الله وجهه - : " ميدانكم الأول أنفسكم فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر ، وإن خذلتم فيها كنتم على غيرها أعجز . فجربوا الكفاح معها أولاً " ، و الكفاح هنا لا يتعدى كونه خطوات صغيرة سرعان ما ستجد صداها الكبير حين تتحرر الكائنات الورقية من صورتها النمطية الحالية و تتحول إلى عنصر حيوي في عالمنا كأسلوب حياة مشترك بين الجميع .

نشرت في صفحة مشروع الجليس لإحياء الثقافة / جريدة الأنباء الكويتية