بدا صوت جرس المدرسة الذي انطلق في صباح ذلك اليوم كما
لو كان سيستمر ذات لحظة إلى الأبد، كنت في طريقي إلى المكتب حين وقعت عيناي على
الجانب الأيسر من لوحة الشرف التي تضم أسماء أوائل الطلبة على المدرسة، حيث صورة
هلال تحديداً .. هلال جرحي اليومي الذي ينكأه زملاؤه في الصف بسخريتهم الشائكة.
لا تكاد عيناي تلتقيان بعيني هذا الشاب حتى يتشكل سلوكي
بطريقة مختلفة أستنكرها على نفسي حتى.
ما إن ألقي
فكاهة عابرة حتى أحول بصري إليه لأستطلع أثرها عليه، إذا رأيته سارحاً في الصّف أحاول
أن أكتشف ما يفكّر فيه، لاسيما إذا ظل يحدق في السقف، تلك الشاشة البيضاء التي
طالما أطلقت فيها العنان لخيالي لينتشلني من مقعدي الصغير في زاوية الصّف إلى
أقاصي اللامحدود يوم كنت تلميذاً.
كنت في حينها أدون ما أراه في أحلام يقظتي تلك بقلم رصاص
على سطح الطاولة، و أضطر أحياناً لمحو ما كتبت لئلا يظنه المعلمون محاولة للغش في
امتحانٍ ما.
كان هلال شارداً كعادته عندما دخلت غرفة الصّف و على
شفتيه ابتسامة طفيفة، وزعتُ أوراق امتحان التعبير المصححة على الطلبة، و طلبت منه
أن يقرأ نصّه عليهم، كما جرت العادة التي تقتضي بأن يقرأ الحاصل على الدرجة
الكاملة نصّه، حتى يتعلم البقية شيئاً منه.
"أحياناً نبدأ بالبحث عمّا ينقصنا عندما نتلمس
سعادة الآخرين بحساسية متسوّل لرائحة رغيف، عندما نتوهم اكتمالها كما لو أن سوء
الحظ يتحاشاهم بخبث ليعود و يصطدم بنا، في أحيانٍ أخرى نكون قد قطعنا طريقاً
طويلاً في البحث عمّا يرممنا من الداخل، و نكون قد فشلنا إلى الحد الذي يجعلنا نظن
أي قشة طوق نجاة!"
- "و انت كيف بديت تدور عاللي ينقصك؟ لما صاحبت
أستاذ حميد و لا لما هو صاحبك؟"
جاء الصّوت المتهكم من آخر الصّف، و جحظت عينان خبيثتان
من تحت الطاولة الأخيرة كما لو كانتا ستلتهمان هلال بغتة، ثم تعالت الضحكات من
أنحاء مختلفة من الصّف، لاسيما من الناحية اليمنى، التي اعتاد الأساتذة على
تصنيفها على أنها الناحية التي تضمّ أسوأ طلبة الصف تحصيلاً و سلوكاً، بناءً على
نظرية البرتقالة الفاسدة التي تفسد ما حولها أولاً إلى أن يفسد صندوق البرتقال
كله.
ارتطمت نظرة هلال المتفاجئة بزجاج النافذة و لم تكد تنفذ
من خلالها من فرط سطوع الشمس، خُيّل إليّ أنه شعر بحرارتها تلتهب على جلده رغم
برودة الهواء المندفع من فتحة جهاز التكييف العريضة، و أنه تصوّر تلك الفتحة فماً
يتسع لضحكة مجلجلة تبتلعه عوضاً عن العيون النهمة من حوله، لاسيما تلكما العينين
الجاحظتين تحت الطاولة، ظلّ مُطرقاً قليلاً ثم
قال و هو يمسح زجاج نظارته بطرف دشداشته متظاهراً بتنظيفها: "لست
بحاجة للإجابة عن سؤالك".
أهي نظرة استهجان طعنته أم أنه محض شعور بلا جدوى هذا
الجدال، دفعه للاستسلام لسخرية الطلبة حتى الآن؟ تساءلتُ في سري و أنا أسند ظهري
إلى الحائط الجانبي لغرفة الصّف. أكاد أشعر بأني كائن غير مرئي في هذه الغرفة
المعجونة بالصّخب و الفوضى، رغم أني طويل القامة و قسمات وجهي واضحة على أقل تقدير،
أنفي طويل و شفتاي عريضتان و صوتي لا يُعدُّ منخفضاً.
أغمضت عينيّ
لبرهة و أخذت شهقة عميقة، و بدلاً من أن يمتلئ صدري بهواء نظيف شعرت بروحي تقشعرُّ
من رائحة عرق يتخللها شذى عطر رخيص. ذكرتني الرائحة فوراً ببضع مشاهد لذكريات نتنة.
لطالما اكتشفتُ وجود ملصقات ملونة على ظهري عند خروجي من هذا الصف أو غيره، تلك
الملصقات الملونة المضحكة التي تشبه نجوماً بأطراف زائدة، و توضع على منتجات رخيصة
في العادة، مثل "خذ واحداً و احصل على الآخر مجاناً"! أحياناً عندما كنت
أهمُّ بالنهوض من كرسيّي كنت أستشعر التصاقه بي و يضحك الطلبة. حين أسألهم من الذي
سكب اللاصق السائل على الكرسي، لا يجيب أحدٌ و يستمر الضحك. الضحك الذي ما عاد
مستغرباً في أي حصة أو مناسبة أو حتى بدونها، حتى أنه لم يعد يسأل أي طالبٍ
"لماذا تضحك"؟
- أستاذ .. ليش تختبرنا في التعبير إذا كانت الدرجة
الكاملة ما يحصلها غير بعض الناس؟
يحدّق عماد في هلال باحتقار من بعيد ثم يوزع نظراته على
زملائه في محاولة منه لحصد تأييد على ما يلمح إليه، و لم يكن بحاجة للانتظار حيث
تصاعد هتافٌ آخر بعد لحظة "صح صح" !
لم يكن من السّهل لأحد أن يغامر في دخول جدال مع عماد،
حتى لو كان أستاذاً، اعتاد هذا الشاب ذو الشاربين الكثيفين القصيرين و
"الكمّة" الصغيرة المائلة على يمين رأسه على أن يكسب جدالاته بسهولة
بفعل ذكائه و حدة لسانه من جهة و بتأييد رفاقه الكثر في الصف من جهة أخرى، و رغم
أن تفوقه في التحصيل الدراسي لا يقلُّ سطوعاً عن براعته في الجدال إلا أنه كان
يبذل جهداً يكاد يُحسد عليه للحصول على المراكز الأولى على صفه في كل عام.
امتد نظري إلى طاولات الطلبة المخربشة، لمحت رسومات
لقلوب محطمة و أخرى تخترقها أسهم، كانت هنالك سيارات و وجوه، و فقرات منسوخة من
كتب المقررات بخط صغير لا يكاد يُقرأ، التقطتُ القلم من على إحدى الطاولات و شرعت
أرسم على السبورة شجرة ضخمة متفرعة، توقفت قبل أن أكملها و خربشتُ عليها ببضع خطوط
عشوائية عوضاً عن محوها...
- عماد، هل مستواك في الرياضيات يشبه مستوى ناصر و أحمد
و خالد تماماً؟ هل نجح كل علماء الأحياء البارزين في أن يصبحوا ممثلي سينما؟ هذا
التفاوت بين الموهبة في مجال و انعدامها في مجال آخر هو أمرٌ بديهيٌ تماماً!
ينصت عماد إليه و هو ينظر إلى السقف، يمرر لسانه على
أسنانه بلا اكتراث كما لو أنه لم يسمع شيئاً قط منذ قليل.
في الفسحة المدرسية كنت
أتأمل هلالاً من بعيد، ألاحظ انسجامه مع عدد من أصدقائه، و شغفه الواضح بشطيرة
الفلافل، ملابسه المكوية بعناية، و كل ذلك لايشبهني في شيء على الإطلاق.
تقفز تساؤلات الطلبة المتهكمة إلى ذهني فيقشعر جلدي من
لسعة القلق في إثرها: ما المعيار الذي يحصل هلال على أساسه على الدرجة الكاملة في
امتحان التعبير في كل مرة؟
أي معيار سيقتضي أن تكون بضع كلمات متسلسلة كافية لتشكيل
أرجوحة على أطراف هاوية؟ كيف يمكن أن تُقنع الجميع بأن جملةً ما – دون سواها- قد نجحت في النفاذ إلى أقصى زاوية من روحك بلا
ربكة؟
بأي مقياس رقمي متدرج يمكن أن تقاس رهافة الكلمة التي
تتسلل إلينا عبر نوافذ الجرح كما لو كانت آية من نور أو وحياً؟ لا شيء! .. لا شيء
في الواقع سوى ذلك الأثر الخفي العميق لتلك الكلمة على أرواحنا، أثر الفراشة في
عالمٍ يشبه مصنعاً ضخماً لكل ما يستهلك سريعاً، كرقائق البطاطا و قطع العلكة.
على أية حال كان ينبغي لي اتخاذ موقفٍ ما لحظتها، لكن
الوقت تأخر كثيراً على اتخاذ المواقف، لو عادت تلك الوهلة التي انساب فيها قلبي
كشال حرير على عنقها الأملس، أو ذلك اليوم الذي بكت فيه على صدري كطفلة فقدت
سلواها الوحيدة في الحياة، و هي تتوسل إليّ أن أسرع في خطبتها؛ لئلا تتورط أمام
أهلها في موقف صعب ضد الخطّاب الذين ازدحموا على بابها، لقلت لها شيئاً آخر غير ما
قلت يومها، لعلي ما كنت لأعدها بشيء حتى لا تبقى مرارة الخذلان في فمي إلى الآن ..
و لعلّي لن أفعل، في الواقع لم أعد أذكر جيداً كيف كانت نظرتها المستجدية كافية
لتوريطي في أي كارثة حتى لو ترتبت عليها نهاية العالم.
كنت أصغر و أقل شجاعة من أن أساوم في مشاعري، خلجات روحي
الأولى تجاه امرأة نهبت أعماقي، لذا سعيت للتخرج من الجامعة سريعاً، سجلت أكبر عدد
ممكن من المواد الدراسية في كل فصل، تجاهلت الفرص السخية التي انهالت عليّ
للمشاركة في المهرجانات الأدبية لئلا يضيع الوقت فيما لا طائل منه – كما كنت أظن،
و سعيت لإيجاد وظيفة ملائمة، لكن هذه السرعة كلها لم تكن كافية للحاق بفرصة البقاء
معها إلى أي أبد أو أمد حتى.
لعلّي كنت سأتشبث بالكتابة أكثر، يوم أصبحَتْ عروساً
لسواي ببساطة كادت تصيبني بالجنون، لعلي كنت سأظل متأرجحاً فوق الهاوية على الأقل
عوضاً عن السقوط فيها، بحيث أرى و أسمع كل شيء مثلما هو و أقوله للسماء بصوتي و
أنا أكتب و أكتب، كنت سأرصد في زرقة السماء بحراً و أسأله في خضم الموج و القلق:
أي مركبٍ أنا؟ أظنني نسيت! أي وجهة هي وجهتي؟ و ما هي البوصلة؟ قلبي؟ عقلي؟ مصلحتي
الخالصة؟ الأعراف و التقاليد؟ القدرة على نسيان القطار الذي فات؟ أم براعتي في
اللحاق بالقطار المقبل- إن أتى؟
كنت أمشي باتجاه غرفة الإدارة و أنا أفكر بهذا كله،
التفتُّ إلى لوحة المتفوقين، كان اسم هلال هناك كما اعتدت أن أراه، لكن هلالاً لا
يرى ما أرى، كانت تلزمه أرجوحة طويلة يقف عليها أو يجلس حتى يفهم أن الأقدار ليست
مثلما تبدو عليه ظاهراً، و في هذه السن تحديداً، و مثل هذه الظروف التي مازالت في
صفّه، ما يزال الوجود رحباً و مليئاً بالإمكانات، مازال القلق كامناً بخجل تحت سقف
الرغبة الجامحة، كما لو أنه لن يلسعه قط، لكنه سيفعل .. سيفعل حتماً.
شعرت بشخصٍ يتبعني، فالتفتُّ، كان عماد متجهاً إليّ،
انتبهتُ للمرة الأولى إلى الجحوظ الواضح لعينيه، باغتني بلا مقدمات: أستاذ أيمكنني
أن أحصل منك على تمارين في التعبير؟
أخذ نظري يتردد بين صورة هلال على اللوحة، و بين نظرة
عماد اللاهثة الفارغة، بينما ظل صوت جرس المدرسة الذي انطلق في تلك اللحظة مدويّاً
إلى الأبد.
*القصة الحاصلة على المركز الأول في مسابقة الحكاية و ما فيها/ الملتقى الأدبي العشرون للشباب.