الثلاثاء، 2 ديسمبر 2014

قلب مائل للزرقة




أمحو أثر الطبشور على القلب الأخضر
القلب الخائف من أن يظل تحت أي سقف
مهما كان عالياً
ما دامت الحرية فراشة لامرئية
تحوم في الخارج.


أتنشّقُ زرقة الحرية
التي تخضرّ مرارةً كلما كبرنا
و كما لو كانت حلماً
نكبر نحن فتصغر هي.


في ذكرى ميلادي
أعود خلسةً لأستعيد الله - الذي يحبني وحدي
 القمر الذي يتبعني عبر نافذة السيارة؛ ليحرسني
و شتوية إربد، و النجوم على الدفتر، و أرق ليلة العيد.


أعيدوا إليّ شجاعتي الأولى
في أن أطمع في كل شيء
رغم كوني لا أملك شيئاً.


الشمس ليست صفراء
و هذا الذي رسمته في السماء باللون البني
ليس سوى صرصور طائر:
سأقولها لمعلمة الروضة
و أمضي إلى باقي عمري
حرة مثل ريح تجهل المواسم.


فأكون الغياب
و الغياب حرية الطارئ على الحضور.


لم يُقلِع الخيال عنّي
لكنه غيّر هوايته- هو الآخر
صار يمشي بموازاة الحقيقة
بخفة راقصة باليه
دون أن يفكر بعناقها
أو أن يلتفت ليتأكد
من أنها موجودة حقاً.


منذ البدء لم يكن ثمة شيء مقنع بما يكفي:
تسريحة شعري المائلة لليمين أكثر من اليسار بمقدار سنتيمتر
ادعاءات أمي بأن الدمى لا تشعر
و كلام معلمة الدين عن حب جميع الناس.


لا قيمة للمرآة حين لا يوجد ما تعكسه.
كل ما تبحث عن ذاتك فيه
يبحث عن ذاته فيك – هو أيضاً.


لا شيء يبدو حقيقياً كما يجب
حتى هذه العبارة.
هل ثمة جوهرٌ ما؟
أم أنه هو الآخر لعبة عقلية صرنا جزءاً منها إلى الأبد؟


كل حماقة تلغي الأخرى، أو تكملها:
حكمة الفرار من أول العمر إلى أقصى الحياة
بقلبٍ مائلٍ للزرقة.

إلامَ السّفر؟



 



كان السؤال الكبير يختبئ
في تهويدة خالتي للطفلة التي لا تنام:
"إلامَ السّفر .. يا نور البصر"؟
ضحكة الطفلة التي انسلّت من تحت الغطاء
صارت فيما بعد
خلخالاً لقدم الخالة التي لم تعد تسأل.

***

الكلمة التي استنشق الآخرون شرودها
من على رأسي
صادفتها البارحة
تبحر في ساقية ضيقة
تُخفض جناحها لأغصان الجنة التي أريد
 ثم تجتازها بلا التفاتة أخيرة
إليّ.

***

إنها لا تمطر- كالعادة
لكنهم يخبئون رؤوسهم في حجورهم
يهمس كلٌ منهم لظلمته:
لن يلعب أحدٌ معي
رغم أني معهم، بين فكّي السماء، وحيدة
أنبش ظلماتهم بحثاً عن لعبتي الضائعة
و لا أراها في عيون جثث ضحايا القوانين الكونية
و لا في أقدام لاعبي الكرة
لا في الأسلاك المكشوفة للمعرفة
و لا في فساتين جينيفر لوبيز
تؤطرني الفلسفة فأتشبث بحبل الشّعر الحر
و يتركني الإثنان في منتصف ملعب الاحتمالات
 أبحث –مثل الآخرين- عمّن يشاركني اللعب.

***

و حين أسأم من السأم
أعني حين أسأم منه أكثر
سأعض على حزني و أهرب به
كما لو أن العالم كله يطاردني
كما لو أن لا وجه لي.
آه، لولا وجهي
تلك البقعة القابلة للتجعّد
بلمحة جارحة
لكان بوسع حزني
أن يلبسني
فلا يجرح أحدٌ ظله في غيابي
و لا يتكهّن برائحة روحي في غيابه أحد.




 * نشرت في مجلة الفلق الإلكترونية.

السبت، 30 أغسطس 2014

أرجوحة على الهاوية*


     
The Wildest Swing in Your Life in Ecuador


    بدا صوت جرس المدرسة الذي انطلق في صباح ذلك اليوم كما لو كان سيستمر ذات لحظة إلى الأبد، كنت في طريقي إلى المكتب حين وقعت عيناي على الجانب الأيسر من لوحة الشرف التي تضم أسماء أوائل الطلبة على المدرسة، حيث صورة هلال تحديداً .. هلال جرحي اليومي الذي ينكأه زملاؤه في الصف بسخريتهم الشائكة.

لا تكاد عيناي تلتقيان بعيني هذا الشاب حتى يتشكل سلوكي بطريقة مختلفة أستنكرها على نفسي حتى.
 ما إن ألقي فكاهة عابرة حتى أحول بصري إليه لأستطلع أثرها عليه، إذا رأيته سارحاً في الصّف أحاول أن أكتشف ما يفكّر فيه، لاسيما إذا ظل يحدق في السقف، تلك الشاشة البيضاء التي طالما أطلقت فيها العنان لخيالي لينتشلني من مقعدي الصغير في زاوية الصّف إلى أقاصي اللامحدود يوم كنت تلميذاً.
كنت في حينها أدون ما أراه في أحلام يقظتي تلك بقلم رصاص على سطح الطاولة، و أضطر أحياناً لمحو ما كتبت لئلا يظنه المعلمون محاولة للغش في امتحانٍ ما.

كان هلال شارداً كعادته عندما دخلت غرفة الصّف و على شفتيه ابتسامة طفيفة، وزعتُ أوراق امتحان التعبير المصححة على الطلبة، و طلبت منه أن يقرأ نصّه عليهم، كما جرت العادة التي تقتضي بأن يقرأ الحاصل على الدرجة الكاملة نصّه، حتى يتعلم البقية شيئاً منه.
"أحياناً نبدأ بالبحث عمّا ينقصنا عندما نتلمس سعادة الآخرين بحساسية متسوّل لرائحة رغيف، عندما نتوهم اكتمالها كما لو أن سوء الحظ يتحاشاهم بخبث ليعود و يصطدم بنا، في أحيانٍ أخرى نكون قد قطعنا طريقاً طويلاً في البحث عمّا يرممنا من الداخل، و نكون قد فشلنا إلى الحد الذي يجعلنا نظن أي قشة طوق نجاة!"
- "و انت كيف بديت تدور عاللي ينقصك؟ لما صاحبت أستاذ حميد و لا لما هو صاحبك؟"
جاء الصّوت المتهكم من آخر الصّف، و جحظت عينان خبيثتان من تحت الطاولة الأخيرة كما لو كانتا ستلتهمان هلال بغتة، ثم تعالت الضحكات من أنحاء مختلفة من الصّف، لاسيما من الناحية اليمنى، التي اعتاد الأساتذة على تصنيفها على أنها الناحية التي تضمّ أسوأ طلبة الصف تحصيلاً و سلوكاً، بناءً على نظرية البرتقالة الفاسدة التي تفسد ما حولها أولاً إلى أن يفسد صندوق البرتقال كله.

ارتطمت نظرة هلال المتفاجئة بزجاج النافذة و لم تكد تنفذ من خلالها من فرط سطوع الشمس، خُيّل إليّ أنه شعر بحرارتها تلتهب على جلده رغم برودة الهواء المندفع من فتحة جهاز التكييف العريضة، و أنه تصوّر تلك الفتحة فماً يتسع لضحكة مجلجلة تبتلعه عوضاً عن العيون النهمة من حوله، لاسيما تلكما العينين الجاحظتين تحت الطاولة، ظلّ مُطرقاً قليلاً ثم  قال و هو يمسح زجاج نظارته بطرف دشداشته متظاهراً بتنظيفها: "لست بحاجة للإجابة عن سؤالك".

أهي نظرة استهجان طعنته أم أنه محض شعور بلا جدوى هذا الجدال، دفعه للاستسلام لسخرية الطلبة حتى الآن؟ تساءلتُ في سري و أنا أسند ظهري إلى الحائط الجانبي لغرفة الصّف. أكاد أشعر بأني كائن غير مرئي في هذه الغرفة المعجونة بالصّخب و الفوضى، رغم أني طويل القامة و قسمات وجهي واضحة على أقل تقدير، أنفي طويل و شفتاي عريضتان و صوتي لا يُعدُّ منخفضاً.

 أغمضت عينيّ لبرهة و أخذت شهقة عميقة، و بدلاً من أن يمتلئ صدري بهواء نظيف شعرت بروحي تقشعرُّ من رائحة عرق يتخللها شذى عطر رخيص. ذكرتني الرائحة فوراً ببضع مشاهد لذكريات نتنة. لطالما اكتشفتُ وجود ملصقات ملونة على ظهري عند خروجي من هذا الصف أو غيره، تلك الملصقات الملونة المضحكة التي تشبه نجوماً بأطراف زائدة، و توضع على منتجات رخيصة في العادة، مثل "خذ واحداً و احصل على الآخر مجاناً"! أحياناً عندما كنت أهمُّ بالنهوض من كرسيّي كنت أستشعر التصاقه بي و يضحك الطلبة. حين أسألهم من الذي سكب اللاصق السائل على الكرسي، لا يجيب أحدٌ و يستمر الضحك. الضحك الذي ما عاد مستغرباً في أي حصة أو مناسبة أو حتى بدونها، حتى أنه لم يعد يسأل أي طالبٍ "لماذا تضحك"؟

- أستاذ .. ليش تختبرنا في التعبير إذا كانت الدرجة الكاملة ما يحصلها غير بعض الناس؟
يحدّق عماد في هلال باحتقار من بعيد ثم يوزع نظراته على زملائه في محاولة منه لحصد تأييد على ما يلمح إليه، و لم يكن بحاجة للانتظار حيث تصاعد هتافٌ آخر بعد لحظة "صح صح" !
لم يكن من السّهل لأحد أن يغامر في دخول جدال مع عماد، حتى لو كان أستاذاً، اعتاد هذا الشاب ذو الشاربين الكثيفين القصيرين و "الكمّة" الصغيرة المائلة على يمين رأسه على أن يكسب جدالاته بسهولة بفعل ذكائه و حدة لسانه من جهة و بتأييد رفاقه الكثر في الصف من جهة أخرى، و رغم أن تفوقه في التحصيل الدراسي لا يقلُّ سطوعاً عن براعته في الجدال إلا أنه كان يبذل جهداً يكاد يُحسد عليه للحصول على المراكز الأولى على صفه في كل عام.

امتد نظري إلى طاولات الطلبة المخربشة، لمحت رسومات لقلوب محطمة و أخرى تخترقها أسهم، كانت هنالك سيارات و وجوه، و فقرات منسوخة من كتب المقررات بخط صغير لا يكاد يُقرأ، التقطتُ القلم من على إحدى الطاولات و شرعت أرسم على السبورة شجرة ضخمة متفرعة، توقفت قبل أن أكملها و خربشتُ عليها ببضع خطوط عشوائية عوضاً عن محوها...
- عماد، هل مستواك في الرياضيات يشبه مستوى ناصر و أحمد و خالد تماماً؟ هل نجح كل علماء الأحياء البارزين في أن يصبحوا ممثلي سينما؟ هذا التفاوت بين الموهبة في مجال و انعدامها في مجال آخر هو أمرٌ بديهيٌ تماماً!
ينصت عماد إليه و هو ينظر إلى السقف، يمرر لسانه على أسنانه بلا اكتراث كما لو أنه لم يسمع شيئاً قط منذ قليل.

في الفسحة المدرسية كنت أتأمل هلالاً من بعيد، ألاحظ انسجامه مع عدد من أصدقائه، و شغفه الواضح بشطيرة الفلافل، ملابسه المكوية بعناية، و كل ذلك لايشبهني في شيء على الإطلاق.
تقفز تساؤلات الطلبة المتهكمة إلى ذهني فيقشعر جلدي من لسعة القلق في إثرها: ما المعيار الذي يحصل هلال على أساسه على الدرجة الكاملة في امتحان التعبير في كل مرة؟
أي معيار سيقتضي أن تكون بضع كلمات متسلسلة كافية لتشكيل أرجوحة على أطراف هاوية؟ كيف يمكن أن تُقنع الجميع بأن جملةً ما – دون سواها-  قد نجحت في النفاذ إلى أقصى زاوية من روحك بلا ربكة؟
بأي مقياس رقمي متدرج يمكن أن تقاس رهافة الكلمة التي تتسلل إلينا عبر نوافذ الجرح كما لو كانت آية من نور أو وحياً؟ لا شيء! .. لا شيء في الواقع سوى ذلك الأثر الخفي العميق لتلك الكلمة على أرواحنا، أثر الفراشة في عالمٍ يشبه مصنعاً ضخماً لكل ما يستهلك سريعاً، كرقائق البطاطا و قطع العلكة.

على أية حال كان ينبغي لي اتخاذ موقفٍ ما لحظتها، لكن الوقت تأخر كثيراً على اتخاذ المواقف، لو عادت تلك الوهلة التي انساب فيها قلبي كشال حرير على عنقها الأملس، أو ذلك اليوم الذي بكت فيه على صدري كطفلة فقدت سلواها الوحيدة في الحياة، و هي تتوسل إليّ أن أسرع في خطبتها؛ لئلا تتورط أمام أهلها في موقف صعب ضد الخطّاب الذين ازدحموا على بابها، لقلت لها شيئاً آخر غير ما قلت يومها، لعلي ما كنت لأعدها بشيء حتى لا تبقى مرارة الخذلان في فمي إلى الآن .. و لعلّي لن أفعل، في الواقع لم أعد أذكر جيداً كيف كانت نظرتها المستجدية كافية لتوريطي في أي كارثة حتى لو ترتبت عليها نهاية العالم.
كنت أصغر و أقل شجاعة من أن أساوم في مشاعري، خلجات روحي الأولى تجاه امرأة نهبت أعماقي، لذا سعيت للتخرج من الجامعة سريعاً، سجلت أكبر عدد ممكن من المواد الدراسية في كل فصل، تجاهلت الفرص السخية التي انهالت عليّ للمشاركة في المهرجانات الأدبية لئلا يضيع الوقت فيما لا طائل منه – كما كنت أظن، و سعيت لإيجاد وظيفة ملائمة، لكن هذه السرعة كلها لم تكن كافية للحاق بفرصة البقاء معها إلى أي أبد أو أمد حتى.

لعلّي كنت سأتشبث بالكتابة أكثر، يوم أصبحَتْ عروساً لسواي ببساطة كادت تصيبني بالجنون، لعلي كنت سأظل متأرجحاً فوق الهاوية على الأقل عوضاً عن السقوط فيها، بحيث أرى و أسمع كل شيء مثلما هو و أقوله للسماء بصوتي و أنا أكتب و أكتب، كنت سأرصد في زرقة السماء بحراً و أسأله في خضم الموج و القلق: أي مركبٍ أنا؟ أظنني نسيت! أي وجهة هي وجهتي؟ و ما هي البوصلة؟ قلبي؟ عقلي؟ مصلحتي الخالصة؟ الأعراف و التقاليد؟ القدرة على نسيان القطار الذي فات؟ أم براعتي في اللحاق بالقطار المقبل- إن أتى؟
كنت أمشي باتجاه غرفة الإدارة و أنا أفكر بهذا كله، التفتُّ إلى لوحة المتفوقين، كان اسم هلال هناك كما اعتدت أن أراه، لكن هلالاً لا يرى ما أرى، كانت تلزمه أرجوحة طويلة يقف عليها أو يجلس حتى يفهم أن الأقدار ليست مثلما تبدو عليه ظاهراً، و في هذه السن تحديداً، و مثل هذه الظروف التي مازالت في صفّه، ما يزال الوجود رحباً و مليئاً بالإمكانات، مازال القلق كامناً بخجل تحت سقف الرغبة الجامحة، كما لو أنه لن يلسعه قط، لكنه سيفعل .. سيفعل حتماً.

شعرت بشخصٍ يتبعني، فالتفتُّ، كان عماد متجهاً إليّ، انتبهتُ للمرة الأولى إلى الجحوظ الواضح لعينيه، باغتني بلا مقدمات: أستاذ أيمكنني أن أحصل منك على تمارين في التعبير؟
أخذ نظري يتردد بين صورة هلال على اللوحة، و بين نظرة عماد اللاهثة الفارغة، بينما ظل صوت جرس المدرسة الذي انطلق في تلك اللحظة مدويّاً إلى الأبد.

*القصة الحاصلة على المركز الأول في مسابقة الحكاية و ما فيها/ الملتقى الأدبي العشرون للشباب.

الأربعاء، 19 فبراير 2014

كقطعة شوكولاتة في الثالثة فجراً




(1)

لَم يلفته حَوَرُ عينيها،
و لا صوتُها و هو يَجدّفُ
صوبَ أيّ دهشة أولى،
مشغولاً كان
كمن يحوم حول حُبٍ قديم،
يُحدّق في بياضه/ يُكحّل جثته
يقول هاجسُه:
لعلّ الرّوح المارقة لم تكن محض خريفٍ مر
علّها كانت فرصة النجاة الأخيرة
للعصافير التي باتت أصواتها وشوماَ على جذع قلبك.

***

(2)

يحدثُ بعد أحيانٍ متفاوتة
من أوّل الحُب
أن ينسى لون وجهها و هي تتنهد،
أن لا يتنافسا على "أحبك أكثر"،
أن ينسلخ من نبوّته؛
لأنها لم تعد عشتار،
أن تنسلخ من ارتعاشها المرهف؛
لأنه لم يعد يشبهُ الصّيف
و أن يتراجعا سويّةً عن الكُفر بمبدأ الاعتياد !

***

(3)

ستهمسُ امرأةٌ كادت تختنق يوماً بأحلامها:
العالمُ يا صغيرتي:
الدمية التي حين تدير لكِ ظهرها
لن تعرفي تماماً،
إن كان صوتها ينبعث من صندوق موسيقى،
أم أنه صوتكِ ذاته - المُحلّى بيقينكِ الطفولي
حول حقيقيّة الأشياء !

***

(4)

كقطعة شوكولاتة في الثالثة فجراً
هي السعادة:
مجهولٌ طارئٌ تتبناهُ القناعة/
لقمة تسدّ رمق العجز الأبدي.

***
(5)

جرّب أن تنصت إذا أوجعك النظر
جرّب أن تنظر و حسب
إذا أوجعتك روحك من فرط التأمل،
جرّب أن تكفّ عن التجارب
إذا آلمتك الخيبة

من فرط الأمل.


نشرت في صحيفة (آراء) الإلكترونية: http://www.araa.com/article/81405

قراءة في اللامنتمي لكولن ولسون



رغم كثرة القراءات و المناقشات حول الكتاب الشهير "اللامنتمي" لكولن ولسون إلا أنني ارتأيت أن أبني خارطتي المعرفية الخاصة حوله، إلى جانب بعض الملاحظات التي سجلتها على هامش هذه القراءة حيث تركز اهتمامي فيها على التعرف إلى اللامنتمي من ناحية سيكولوجية أكثر من كونها تحليلية - أدبية، و هذا لم يكن سهلاً في ظل الإستفاضة التي يتسم بها طرح الكاتب، رغم الدعوى القائلة بأن هدف الكتاب هو تسليط الضوء على سيكولوجية اللامنتمي على وجه الخصوص.

كمقدمة يستعرض ناشر الطبعة العاشرة تعريفاً للامنتمي و تشخيصاً لحالته الفريدة فيقول أن مشكلة اللامنتمي هي في جوهرها مشكلة الحرية، و تحديداً الحرية بمعناها الروحي العميق، فهو ينشد الحرية و يتطلع إليها لكنه يتعثر في طريق الوصول إليها في عالم يساومه على كل شيء، و يطلب منه مقابلاً على ما يعطيه إياه من سعادة مهما كانت ضئيلة. و يسبق ذلك تعريف اللامنتمي بوصفه غير مجنون، و إنما هو فقط أكثر حساسية من المتفائلين صحيحي العقول!

ثم ينتقل للفصل الأول فيستعرض فيه حالة (اللامنتمي الوجودي) الذي تكون درجة استشعاره للضحالة و اللاحقيقية أوضح ما تكون عنده، حيث لا يكاد يلمس أثراً للمعنى في كل ما يقوم به، و تنتهي كل تجاربه العقلية و الشعورية إلى الشعور بالخذلان و الخيبة العميقة، و لعلّ رواية "غثيان" لسارتر هي أبرز مثال على هذه الحالة، فقد جاء على لسان البطل "ليس الغثيان داخلي، إنني أحسُّ به في خارجي، هنالك في الحائط، في الحمّالات، في كل مكان حولي". يرى اللامنتمي الوجودي محدودية العقل لكنه يرغب في نوع من التعويض عن هذه المحدودية، فيصطدم بمفاهيم اللاحقيقية و اللامعنى التي تمنعه من إيجاد الخلاص من هذه المأزق، فهو كما يقول ولسون "يجد أن ممارسته لهذه الحرية مستحيلة في عالم لا حقيقي، كإستحالة القفز حين يكون المرء في حالة السقوط إلى أسفل".

يتطرق بعد ذلك في الفصل الثاني إلى (اللامنتمي الرومانسي)، و هو لا يختلف عن اللامنتمي الوجودي في شعوره باللاحقيقية، و عدم قدرة محيطه على إشباع رغباته لاسيما رغبته في الخلاص و التحرر، إلا أنه يختلف عنه في كونه حالماً و شاعراً بالحاجة إلى وضعه في محيط خاص به، فهو يخشى أن لا يكون العالم مخلوقاً لمواجهة متطلباته الروحية، و هنا يورد الكاتب مقطعاً لـ ستيفن ديدالاوس بطل إحدى روايات جيمس جويس الذي بدأ حياته باعتباره مُعداً ليكون شاعراً: "ضايقه صراخ الأطفال و هم يلعبون، و جعلته أصواتهم الحمقاء يشعر بأنه مختلف عن غيره من الأطفال، و لم يكن راغباً في اللعب، و إنما كان يريد أن يلتقي في هذا العالم بالصورة المعنوية التي يحتفظ بها في ذهنه دائماً، و لم يستطع أن يعرف أن يجدها أو كيف".

يتضح الفارق بين أسلوبي اللامنتمي الوجودي و اللامنتمي الرومانسي في أن الأول يسأل: "الحقيقة؟ ترى ماذا يعنون بها؟" بينما الثاني فيقول: "أين أستطيع أن أجد الحقيقة؟"، فاللامنتمي الرومانسي يشعر بأنه يجب أن تكون هنالك ما يعبر عنه ولسون بأنه "طريقة في الحياة تتميز دائماً بالشدة التي يحس بها الفنان حين يكون ذاهلاً ذهوله الخلاق"، و يرى أن في الحياة إمكانات مثيرة و إن كانت صعبة المنال فهي تستحق هذا الشغف و التعلق و مهما كانت تتسبب في إحباطه لإستحالة أن يعيش على نفس هذا المستوى من الشدة دائماً.

ثم يتناول ولسون في الفصل الخامس مفهوم (عتبة الألم) عند اللامنتمي و خصوصيته لديه، فانخفاض هذه العتبة و حساسيته الفائقة لهذا الألم، و ارتفاع سقف قناعته في الوقت ذاته إلى جانب عقله الناقد تشكلان طبيعته بحيث تطمح لإيجاد شيء تتفق معه كل الإتفاق، و إلا فإنه ليس بحاجة للإيمان بما لا يقبله عقله، و لا تستسيغه روحه العميقة.


تأتي الفصول اللاحقة مفصلة تجارب فكرية و حياتية لأدباء و مبدعين و مفكرين كثر، كدستويفسكي و كافكا و نيتشه و كامو و فان كوخ و سواهم، و يبدو لي أن هذا الإسهاب و التفصيل في تجارب هؤلاء تحرم القارئ من متعة الإقتراب من الموضوعية و استخلاص النتائج و الحلول إذا صح التعبير، و كثيراً ما تبدو بعض ملاحظات الكاتب غير منظمة في سياق يتيح الإستدلال الجيد من خلالها، إلا أن هذا الكتاب يظل موسوعة ثرية تستحق خوض غمارها لاسيما إذا كان القارئ ممن يمتلكون شيئاً من حيرة اللامنتمي و توقه للحرية و الخلاص النهائي، ففي تنوع التجارب التي يحويها دلالة حقيقية على نسبية التحرر كماً و كيفاً، و على فردية التجربة، و ذاتيتها، و وفائها لـ لا-إنتمائية صاحبها.


نشرت في صحيفة (آراء) الإلكترونية: http://www.araa.com/article/84268

شهقة الممكن في صدر المستحيل




(1)

لا أؤمن بكفر الجوع
بعضهُ كعطش أنصافِ الأحياء/ للموت:
صكُّ نجاة
من التعلق الذليل
بهامش الوجود!


(2)

أحبك تعني
أن أسمح لكل فكرة
تخدشُ خِفة وجودي اللامرئي
بأن تعبرني
بلا ندم.
أن أرفعَ كفيّ عالياً
و أضحك - ببساطة -
كلما دغدغ الهواء
ما تبقى على ذراعي من زغب الجنون.


(3)

اعتدتُ أن تنتهيَ لعبةُ المصارحة
و رأسي معلقٌ بحبل السؤال الأخير.
الناسُ كلهم حولي.. و لا أحد
كل الإجابات.. و لا جواب
و كلما يممتُ جسَدي شطرَ الهَاوية 
تشبثتُ بنفسي.


(4)

أقفزُ على حبلٍ قصير
كالصَّبر، كالأمل، كالعمر
ينكمشُ كلما تشكّلتْ عقدةٌ جديدة فيه،
حبلٌ يتلوّى في كهفِ عُزلتك
وقتما تتمنى لي
يأساً يليقُ بامرأةٍ قلقةٍ مثلي
لا تكفُّ عن السّير و البكاءِ و الضّحِك
أثناءَ نومها
في شرفةٍ
تُقصَفُ كُلَّ فجرٍ
بأغنيةِ شرفة الجيران،
الأغنية التي لا تلتقطُ من سياقها السّريع
إلا كلمتها الأولى 
.... خذني!


(5)

حاجتك للآخرين
أبخسُ من أن تقايضَ بها
عفويةَ صمتك/
لؤمك/ لا- اكتراثك/ الشخصي جداً.
تعرفُ أن إملاقك في أعينهم
كفيلٌ بجعلكَ محسوداً
على تحصيلك الحاصل 
من أبوابٍ لن يطرقوها.


(6)

أحببتُ قبلك
شاباً لا يشيخ
اسمه الأبدُ
لذا أمشي إليك
بخطىً راجفة
كما لو كانَ الوقتُ - كل الوقت -
حقلَ ألغامٍ
يتوردُ من حَرّ الاختناق.


(7)

أظنُني نضُجت
للحدِّ الذي أُطيّرُ فيه البالونات
دون أن يصطدمَ رأسي
بفِكرةِ السماء السّابعة !


(8)

أحبكَ تعني
عناقاً غامِضاً
تتحدُّ فيه عناصرُ المِيتافيزيقا،
تُراقصُ فيه المتشابهاتُ بعضهَا
رقصَة الأضداد
على الجسْر المُتهالك
للمعنى.


(9)

أخشى من الجرْي الأعمى
خلفَ مَا ليسَ لي،
من كلِّ ما يُبللُ و لا يُغرِق،
من حِيل البقاء، و الغرائز،
بينما لا يزالُ في وسعي
أن أنفقَ هواءَ صدري كله
على الشموع المُلونة
- بلا رعبٍ حقيقي -
من التشرّد في صحراء الحنين
إلى أبد الآيسين.


(10)

أحبك: شهقة الممكن في صدر المستحيل. 




نشرت في صحيفة (آراء) الإلكترونية: http://www.araa.com/article/74265#sthash.bS6MVTgC.dpuf