الثلاثاء، 18 أكتوبر 2011

خرساء إلا ربعاً


الشاشات المضيئة تعلن عن الرّحلات المغادرة و القادمة ، حقائب المسافرين تنزلق مسرعة كحزمٍ ضوئية تتناثر في كل الإتجاهات . أجلسُ بين والديّ على مقاعد الإنتظار ، و الفجر المُتعَب يجفف جبينه الندي ، متجاهلاً القلق في عيني أبي ، و أسئلته المتكررة عمّا يمكن أن أكون قد نسيته ككل مرة أسافر فيها .

تلك الطفلة المتسلحة بصمتها المكابر تخرج اليوم من مسامي مبللة بالجنون ، تُخرِج عدتها من الورق و الألوان و تخربش على وجهي كقطة هائجة ، تعقد حاجبيّ و تُطبق شفتيّ كلما جئت لأهمس بسرٍ وداعي جميل في أذن أمي . هل كانت أذنها بحاجة إلى أسبرين صوتي حقاً ؟ أم أن البكاء الصامت في عينيها كان كفيلاً بتخدير حزنها الغجري لبعض الوقت ؟!

أربع سيدات يبدين في أوائل الثلاثينات من العمر ، يبدو من سمرة وجوههن الشاحبة الخالية من المساحيق و من الشالات المزركشة الملفوفة على رؤوسهن بعشوائية أنهن لا ينتمين إلى هذه المدينة . يقتربن منا ، يسلمن علينا ، و إحداهن تسأل أبي :

- ابنتك مسافرة للكويت ؟

يجيبها بهدوء و تردد :

- نعم .. و أنتن أيضاً ؟

- نحن مشرفات عليهم ، سنوصلهم إلى السكن .. حتى تطمئنوا تماماً

- ما شاء الله . حقاً ؟ أين بقية الطلبة إذن ؟

تجيبه الأخرى بحماس غريب :

-هناك 27 آخرين . سنكون هنا بانتظارهم ، و أنتم يمكنكم العودة للبيت إذا شئتم . نحن سنتكفل بالبنت !

- لا بأس ! نحن باقون هنا لبعض الوقت .

أبتسم لهن بلطف . و الطفلة بداخلي تتثاءب ، تتململ قليلاً ، ثم تلعن الوقت الذي جاء بهن إلى هنا . ألا تكبر ؟ ألا تموت ؟! خمسة عشر عاماً منذ كانوا يسألون والدي :

أهي بكماء ؟ هذه الدمية الصغيرة الحلوة لماذا هي ساكتة هكذا ؟!

كانت تتمنى أحياناً أن تجيب لكن ثمة ما يغري في الصّمت . كانت أصغر من أن تعي أنه يوفر الجهد على الحبال الصوتية . و أكثر جُبناً من أن تتجرأ على كسر الحاجز الزجاجي الذي يحميها من السقوط في حبائل الكلمات . حتى الكلمات التي تحب ، فهي جميلةٌ فقط خلف الزجاج الذي يمنحها كل ذاك البريق .

في المقعد المجاور أمهاتٌ يشبههن أمي ، لم أطل في أعينهن لأتيقن من أنها تلمع كنجوم في السّحر ، بالرغم من أن الفجر يكاد أن يطمسها . لكنني أدرك ذلك بحاستي السادسة التي انتقلت إليّ اليوم من أمي فجأة . هذه هي سُنة الوقت .. الوقت الفخ الأول و الأخير لكل ألاعيب القدر .

أمامي أطفال تترواح أعمارهم بين السادسة و العاشرة . يتكلمون بصمت ، يحركون أيديهم و يضحكون ، يطلقون من أفواههم صوتاً يشبه الصّفير . يبدون منسجمين مع بعضهم تماماً .. و بلا أية كلمات . هل هي مصادفةٌ أن تخرج تلك الطفلة الخرساء من جحرها اليوم لتلصق بوجهي و تجثم على رئتي ، ثم تصادف هؤلاء و هم يتحدثون بلغتها ، يضحكون مثلها بلا وزنٍ أو قافية ؟ و لعلّهم سيبكون أيضاً بالوحشية نفسها .. ليلاً حين يشيخ هذا الفجر الكسول ، و تنام الأمهات على سُرر اللهفة المُرصعة بالدّمع . لعلّهم سيقفون على أيّة نافذة و يرسمون بالدموع بيوتاً كريستالية ، و حناجر تشبه صناديق الموسيقى ، و خبزاً معجوناً بأيدي الأمهات الدافئة .

يد أمي لا تبرد ؛ لذا لا أتوغل فيها كثيراً ؛ كي لا أشعل آخر قطرة صبرٍ تضيء لي الأشهر العِجاف القادمة . أصافح اللافتات بعينين باردتين كبحيرتي جليد . أبحث عن البوابة (1) ، أسرع في المشي . أهرب من المشرفات و الأطفال الصّم و الزحام . أبحث عن مقعدٍ بعيد في أية زاوية ، لكن المكان مزدحم ، و الزوايا تحاصرها العيون .

يُفتح الباب ، ينطلق الجميع إلى الطائرة . الأطفال الصّم يقفزون و يضحكون . و لم أكن أجد شيئاً واحداً يبعث على التبسُّم .

ها هو مقعدي أخيراً ، في منتصف الطائرة تماماً ، فوق الجناحين بالضبط . أخبرت والدي أن يحجز لي المقعد الأقرب إلى الممر مثل كل رحلة أسافر فيها عن مسقط . مثلما أخبره دائماً أن يحجز لي المقعد الأقرب للنافذة في رحلات العودة إليها .

بجوار النافذة طفلٌ يبدو في العاشرة من عمره يرتدي دشداشة رمادية و على رأسه ( شماغ ) أرجواني ملفوف على طريقة أهل الشرقية ، المقعد الأوسط فارغٌ ، و الطفلة المتجهمة تسبقني إلى مقعدي . تلتصق بظهره لتظل تغرس سكاكينها في حنجرتي طوال الرحلة . ربّاه ! يبدو أنني حفظتُ كل نواياها المبيتة .

المشرفات يجلسن في المقعد الذي أمامي مباشرة . يلتفتن لتفقد الأطفال بين حين و آخر . الصّبي ذو الشماغ يكلم الفتاة الجالسة على المقعد المجاور الذي لا يفصلني عنه إلا الممر ، يكلمها بلغة الإشارة و هي تضحك . يد الصّبي تمتد إلى جهتي فجأة .. يفزعني ذلك ، و ألتفت إليه .. فيعتذر ، و يبدو أن تلك الحركة كانت جزءاً من قصة طويلة يحكيها للفتاة . كان ضجيجهما عالياً ، و كنت مثل الأحمق في زفة الطرشان . أشك في أنهما لم يتحدثا عني طوال تلك المدة و قد كنت العثرة الوحيدة بينهما .

أمد يدي إلى الحقيبة لأخرج كتابي . من الجيد أن أنشغل بشيءٍ ما بدلاً من محاولة تخمين ما يتحدثان فيه . أبدأ بالقراءة ، لكنني أرفع عيني عن الكتاب فجأة . تسألني إحدى المشرفات بلغة الإشارة و هي تشير إلى حاجبيها و شفتيها ثم تلوي يديها عوضاً عن قول ( لماذا ) ؟

أبتسم و أنا أرد عليها : عفواً ؟ لم أسمع ..

تفغر فاهها فجأة : آه ! أنتِ تتكلمين ! إذن أنتِ لستِ ..... عفواً سامحيني

تتسع ابتسامتي أكثر ..

- لا بأس أعرف .. ربما ظننتيني معهم

- لا .. كنتم جالسين بجوار أهل ذوي الاحتياجات الخاصة .. هكذا فقط .. اعذريني

تلتفت المشرفة الثانية إلى زميلتها دون كلمة و في عينيها نظرة استفهام . تهمس لها الأخرى بالقصة كاملة ، ابتسامتي تتسع أكثر فأكثر .. أرى ذراع الصبي و هي تتحرك في الهواء ، و أسمع صوتاً متقطعاً للفتاة و هي تضحك . الطفلة المتجهمة أخذت تضحك أيضاً ، بل تقهقه نشوة بانتصارها . تمر المضيفة من جواري فأستوقفها :

- - هل عندكم ورق ؟

- - عفواً ؟!

- - ورق أبيض .. دفتر صغير أو أي شيء ؟

- - حاضر .. سأجلبه لكِ

نظرات الفتاة تتنقل بين وجهي و ظهر الكتاب الذي أخفي به الورق الذي وصلني للتو . لا أتشارك خصوصية ما أكتب مع الأشخاص الذين أكتب عنهم .. بعد دقائق يعرض علي الصّبي علبة عصير أرفضها بأدب ، و بلغة الإشارة الركيكة التي لا أعرف عنها إلا ما أعرفه عن اللغة الأسبانية . أبتسم .. و ألقي برأسي على ظهر المقعد . و يعود الإثنان للحديث و الضحك بصوتٍ عال .

فاطمة إحسان اللواتي

16/9/2011


*نشرت في ملحق ( شرفات ) / جريدة عمان

هناك تعليق واحد:

  1. رائع جدا ابدعتييييييي صورتي كل شيء لدرجة اني رأيت كل ما حدث

    ردحذف