الأربعاء، 19 فبراير 2014

قراءة في اللامنتمي لكولن ولسون



رغم كثرة القراءات و المناقشات حول الكتاب الشهير "اللامنتمي" لكولن ولسون إلا أنني ارتأيت أن أبني خارطتي المعرفية الخاصة حوله، إلى جانب بعض الملاحظات التي سجلتها على هامش هذه القراءة حيث تركز اهتمامي فيها على التعرف إلى اللامنتمي من ناحية سيكولوجية أكثر من كونها تحليلية - أدبية، و هذا لم يكن سهلاً في ظل الإستفاضة التي يتسم بها طرح الكاتب، رغم الدعوى القائلة بأن هدف الكتاب هو تسليط الضوء على سيكولوجية اللامنتمي على وجه الخصوص.

كمقدمة يستعرض ناشر الطبعة العاشرة تعريفاً للامنتمي و تشخيصاً لحالته الفريدة فيقول أن مشكلة اللامنتمي هي في جوهرها مشكلة الحرية، و تحديداً الحرية بمعناها الروحي العميق، فهو ينشد الحرية و يتطلع إليها لكنه يتعثر في طريق الوصول إليها في عالم يساومه على كل شيء، و يطلب منه مقابلاً على ما يعطيه إياه من سعادة مهما كانت ضئيلة. و يسبق ذلك تعريف اللامنتمي بوصفه غير مجنون، و إنما هو فقط أكثر حساسية من المتفائلين صحيحي العقول!

ثم ينتقل للفصل الأول فيستعرض فيه حالة (اللامنتمي الوجودي) الذي تكون درجة استشعاره للضحالة و اللاحقيقية أوضح ما تكون عنده، حيث لا يكاد يلمس أثراً للمعنى في كل ما يقوم به، و تنتهي كل تجاربه العقلية و الشعورية إلى الشعور بالخذلان و الخيبة العميقة، و لعلّ رواية "غثيان" لسارتر هي أبرز مثال على هذه الحالة، فقد جاء على لسان البطل "ليس الغثيان داخلي، إنني أحسُّ به في خارجي، هنالك في الحائط، في الحمّالات، في كل مكان حولي". يرى اللامنتمي الوجودي محدودية العقل لكنه يرغب في نوع من التعويض عن هذه المحدودية، فيصطدم بمفاهيم اللاحقيقية و اللامعنى التي تمنعه من إيجاد الخلاص من هذه المأزق، فهو كما يقول ولسون "يجد أن ممارسته لهذه الحرية مستحيلة في عالم لا حقيقي، كإستحالة القفز حين يكون المرء في حالة السقوط إلى أسفل".

يتطرق بعد ذلك في الفصل الثاني إلى (اللامنتمي الرومانسي)، و هو لا يختلف عن اللامنتمي الوجودي في شعوره باللاحقيقية، و عدم قدرة محيطه على إشباع رغباته لاسيما رغبته في الخلاص و التحرر، إلا أنه يختلف عنه في كونه حالماً و شاعراً بالحاجة إلى وضعه في محيط خاص به، فهو يخشى أن لا يكون العالم مخلوقاً لمواجهة متطلباته الروحية، و هنا يورد الكاتب مقطعاً لـ ستيفن ديدالاوس بطل إحدى روايات جيمس جويس الذي بدأ حياته باعتباره مُعداً ليكون شاعراً: "ضايقه صراخ الأطفال و هم يلعبون، و جعلته أصواتهم الحمقاء يشعر بأنه مختلف عن غيره من الأطفال، و لم يكن راغباً في اللعب، و إنما كان يريد أن يلتقي في هذا العالم بالصورة المعنوية التي يحتفظ بها في ذهنه دائماً، و لم يستطع أن يعرف أن يجدها أو كيف".

يتضح الفارق بين أسلوبي اللامنتمي الوجودي و اللامنتمي الرومانسي في أن الأول يسأل: "الحقيقة؟ ترى ماذا يعنون بها؟" بينما الثاني فيقول: "أين أستطيع أن أجد الحقيقة؟"، فاللامنتمي الرومانسي يشعر بأنه يجب أن تكون هنالك ما يعبر عنه ولسون بأنه "طريقة في الحياة تتميز دائماً بالشدة التي يحس بها الفنان حين يكون ذاهلاً ذهوله الخلاق"، و يرى أن في الحياة إمكانات مثيرة و إن كانت صعبة المنال فهي تستحق هذا الشغف و التعلق و مهما كانت تتسبب في إحباطه لإستحالة أن يعيش على نفس هذا المستوى من الشدة دائماً.

ثم يتناول ولسون في الفصل الخامس مفهوم (عتبة الألم) عند اللامنتمي و خصوصيته لديه، فانخفاض هذه العتبة و حساسيته الفائقة لهذا الألم، و ارتفاع سقف قناعته في الوقت ذاته إلى جانب عقله الناقد تشكلان طبيعته بحيث تطمح لإيجاد شيء تتفق معه كل الإتفاق، و إلا فإنه ليس بحاجة للإيمان بما لا يقبله عقله، و لا تستسيغه روحه العميقة.


تأتي الفصول اللاحقة مفصلة تجارب فكرية و حياتية لأدباء و مبدعين و مفكرين كثر، كدستويفسكي و كافكا و نيتشه و كامو و فان كوخ و سواهم، و يبدو لي أن هذا الإسهاب و التفصيل في تجارب هؤلاء تحرم القارئ من متعة الإقتراب من الموضوعية و استخلاص النتائج و الحلول إذا صح التعبير، و كثيراً ما تبدو بعض ملاحظات الكاتب غير منظمة في سياق يتيح الإستدلال الجيد من خلالها، إلا أن هذا الكتاب يظل موسوعة ثرية تستحق خوض غمارها لاسيما إذا كان القارئ ممن يمتلكون شيئاً من حيرة اللامنتمي و توقه للحرية و الخلاص النهائي، ففي تنوع التجارب التي يحويها دلالة حقيقية على نسبية التحرر كماً و كيفاً، و على فردية التجربة، و ذاتيتها، و وفائها لـ لا-إنتمائية صاحبها.


نشرت في صحيفة (آراء) الإلكترونية: http://www.araa.com/article/84268

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق