الأربعاء، 19 فبراير 2014

كقطعة شوكولاتة في الثالثة فجراً




(1)

لَم يلفته حَوَرُ عينيها،
و لا صوتُها و هو يَجدّفُ
صوبَ أيّ دهشة أولى،
مشغولاً كان
كمن يحوم حول حُبٍ قديم،
يُحدّق في بياضه/ يُكحّل جثته
يقول هاجسُه:
لعلّ الرّوح المارقة لم تكن محض خريفٍ مر
علّها كانت فرصة النجاة الأخيرة
للعصافير التي باتت أصواتها وشوماَ على جذع قلبك.

***

(2)

يحدثُ بعد أحيانٍ متفاوتة
من أوّل الحُب
أن ينسى لون وجهها و هي تتنهد،
أن لا يتنافسا على "أحبك أكثر"،
أن ينسلخ من نبوّته؛
لأنها لم تعد عشتار،
أن تنسلخ من ارتعاشها المرهف؛
لأنه لم يعد يشبهُ الصّيف
و أن يتراجعا سويّةً عن الكُفر بمبدأ الاعتياد !

***

(3)

ستهمسُ امرأةٌ كادت تختنق يوماً بأحلامها:
العالمُ يا صغيرتي:
الدمية التي حين تدير لكِ ظهرها
لن تعرفي تماماً،
إن كان صوتها ينبعث من صندوق موسيقى،
أم أنه صوتكِ ذاته - المُحلّى بيقينكِ الطفولي
حول حقيقيّة الأشياء !

***

(4)

كقطعة شوكولاتة في الثالثة فجراً
هي السعادة:
مجهولٌ طارئٌ تتبناهُ القناعة/
لقمة تسدّ رمق العجز الأبدي.

***
(5)

جرّب أن تنصت إذا أوجعك النظر
جرّب أن تنظر و حسب
إذا أوجعتك روحك من فرط التأمل،
جرّب أن تكفّ عن التجارب
إذا آلمتك الخيبة

من فرط الأمل.


نشرت في صحيفة (آراء) الإلكترونية: http://www.araa.com/article/81405

قراءة في اللامنتمي لكولن ولسون



رغم كثرة القراءات و المناقشات حول الكتاب الشهير "اللامنتمي" لكولن ولسون إلا أنني ارتأيت أن أبني خارطتي المعرفية الخاصة حوله، إلى جانب بعض الملاحظات التي سجلتها على هامش هذه القراءة حيث تركز اهتمامي فيها على التعرف إلى اللامنتمي من ناحية سيكولوجية أكثر من كونها تحليلية - أدبية، و هذا لم يكن سهلاً في ظل الإستفاضة التي يتسم بها طرح الكاتب، رغم الدعوى القائلة بأن هدف الكتاب هو تسليط الضوء على سيكولوجية اللامنتمي على وجه الخصوص.

كمقدمة يستعرض ناشر الطبعة العاشرة تعريفاً للامنتمي و تشخيصاً لحالته الفريدة فيقول أن مشكلة اللامنتمي هي في جوهرها مشكلة الحرية، و تحديداً الحرية بمعناها الروحي العميق، فهو ينشد الحرية و يتطلع إليها لكنه يتعثر في طريق الوصول إليها في عالم يساومه على كل شيء، و يطلب منه مقابلاً على ما يعطيه إياه من سعادة مهما كانت ضئيلة. و يسبق ذلك تعريف اللامنتمي بوصفه غير مجنون، و إنما هو فقط أكثر حساسية من المتفائلين صحيحي العقول!

ثم ينتقل للفصل الأول فيستعرض فيه حالة (اللامنتمي الوجودي) الذي تكون درجة استشعاره للضحالة و اللاحقيقية أوضح ما تكون عنده، حيث لا يكاد يلمس أثراً للمعنى في كل ما يقوم به، و تنتهي كل تجاربه العقلية و الشعورية إلى الشعور بالخذلان و الخيبة العميقة، و لعلّ رواية "غثيان" لسارتر هي أبرز مثال على هذه الحالة، فقد جاء على لسان البطل "ليس الغثيان داخلي، إنني أحسُّ به في خارجي، هنالك في الحائط، في الحمّالات، في كل مكان حولي". يرى اللامنتمي الوجودي محدودية العقل لكنه يرغب في نوع من التعويض عن هذه المحدودية، فيصطدم بمفاهيم اللاحقيقية و اللامعنى التي تمنعه من إيجاد الخلاص من هذه المأزق، فهو كما يقول ولسون "يجد أن ممارسته لهذه الحرية مستحيلة في عالم لا حقيقي، كإستحالة القفز حين يكون المرء في حالة السقوط إلى أسفل".

يتطرق بعد ذلك في الفصل الثاني إلى (اللامنتمي الرومانسي)، و هو لا يختلف عن اللامنتمي الوجودي في شعوره باللاحقيقية، و عدم قدرة محيطه على إشباع رغباته لاسيما رغبته في الخلاص و التحرر، إلا أنه يختلف عنه في كونه حالماً و شاعراً بالحاجة إلى وضعه في محيط خاص به، فهو يخشى أن لا يكون العالم مخلوقاً لمواجهة متطلباته الروحية، و هنا يورد الكاتب مقطعاً لـ ستيفن ديدالاوس بطل إحدى روايات جيمس جويس الذي بدأ حياته باعتباره مُعداً ليكون شاعراً: "ضايقه صراخ الأطفال و هم يلعبون، و جعلته أصواتهم الحمقاء يشعر بأنه مختلف عن غيره من الأطفال، و لم يكن راغباً في اللعب، و إنما كان يريد أن يلتقي في هذا العالم بالصورة المعنوية التي يحتفظ بها في ذهنه دائماً، و لم يستطع أن يعرف أن يجدها أو كيف".

يتضح الفارق بين أسلوبي اللامنتمي الوجودي و اللامنتمي الرومانسي في أن الأول يسأل: "الحقيقة؟ ترى ماذا يعنون بها؟" بينما الثاني فيقول: "أين أستطيع أن أجد الحقيقة؟"، فاللامنتمي الرومانسي يشعر بأنه يجب أن تكون هنالك ما يعبر عنه ولسون بأنه "طريقة في الحياة تتميز دائماً بالشدة التي يحس بها الفنان حين يكون ذاهلاً ذهوله الخلاق"، و يرى أن في الحياة إمكانات مثيرة و إن كانت صعبة المنال فهي تستحق هذا الشغف و التعلق و مهما كانت تتسبب في إحباطه لإستحالة أن يعيش على نفس هذا المستوى من الشدة دائماً.

ثم يتناول ولسون في الفصل الخامس مفهوم (عتبة الألم) عند اللامنتمي و خصوصيته لديه، فانخفاض هذه العتبة و حساسيته الفائقة لهذا الألم، و ارتفاع سقف قناعته في الوقت ذاته إلى جانب عقله الناقد تشكلان طبيعته بحيث تطمح لإيجاد شيء تتفق معه كل الإتفاق، و إلا فإنه ليس بحاجة للإيمان بما لا يقبله عقله، و لا تستسيغه روحه العميقة.


تأتي الفصول اللاحقة مفصلة تجارب فكرية و حياتية لأدباء و مبدعين و مفكرين كثر، كدستويفسكي و كافكا و نيتشه و كامو و فان كوخ و سواهم، و يبدو لي أن هذا الإسهاب و التفصيل في تجارب هؤلاء تحرم القارئ من متعة الإقتراب من الموضوعية و استخلاص النتائج و الحلول إذا صح التعبير، و كثيراً ما تبدو بعض ملاحظات الكاتب غير منظمة في سياق يتيح الإستدلال الجيد من خلالها، إلا أن هذا الكتاب يظل موسوعة ثرية تستحق خوض غمارها لاسيما إذا كان القارئ ممن يمتلكون شيئاً من حيرة اللامنتمي و توقه للحرية و الخلاص النهائي، ففي تنوع التجارب التي يحويها دلالة حقيقية على نسبية التحرر كماً و كيفاً، و على فردية التجربة، و ذاتيتها، و وفائها لـ لا-إنتمائية صاحبها.


نشرت في صحيفة (آراء) الإلكترونية: http://www.araa.com/article/84268

شهقة الممكن في صدر المستحيل




(1)

لا أؤمن بكفر الجوع
بعضهُ كعطش أنصافِ الأحياء/ للموت:
صكُّ نجاة
من التعلق الذليل
بهامش الوجود!


(2)

أحبك تعني
أن أسمح لكل فكرة
تخدشُ خِفة وجودي اللامرئي
بأن تعبرني
بلا ندم.
أن أرفعَ كفيّ عالياً
و أضحك - ببساطة -
كلما دغدغ الهواء
ما تبقى على ذراعي من زغب الجنون.


(3)

اعتدتُ أن تنتهيَ لعبةُ المصارحة
و رأسي معلقٌ بحبل السؤال الأخير.
الناسُ كلهم حولي.. و لا أحد
كل الإجابات.. و لا جواب
و كلما يممتُ جسَدي شطرَ الهَاوية 
تشبثتُ بنفسي.


(4)

أقفزُ على حبلٍ قصير
كالصَّبر، كالأمل، كالعمر
ينكمشُ كلما تشكّلتْ عقدةٌ جديدة فيه،
حبلٌ يتلوّى في كهفِ عُزلتك
وقتما تتمنى لي
يأساً يليقُ بامرأةٍ قلقةٍ مثلي
لا تكفُّ عن السّير و البكاءِ و الضّحِك
أثناءَ نومها
في شرفةٍ
تُقصَفُ كُلَّ فجرٍ
بأغنيةِ شرفة الجيران،
الأغنية التي لا تلتقطُ من سياقها السّريع
إلا كلمتها الأولى 
.... خذني!


(5)

حاجتك للآخرين
أبخسُ من أن تقايضَ بها
عفويةَ صمتك/
لؤمك/ لا- اكتراثك/ الشخصي جداً.
تعرفُ أن إملاقك في أعينهم
كفيلٌ بجعلكَ محسوداً
على تحصيلك الحاصل 
من أبوابٍ لن يطرقوها.


(6)

أحببتُ قبلك
شاباً لا يشيخ
اسمه الأبدُ
لذا أمشي إليك
بخطىً راجفة
كما لو كانَ الوقتُ - كل الوقت -
حقلَ ألغامٍ
يتوردُ من حَرّ الاختناق.


(7)

أظنُني نضُجت
للحدِّ الذي أُطيّرُ فيه البالونات
دون أن يصطدمَ رأسي
بفِكرةِ السماء السّابعة !


(8)

أحبكَ تعني
عناقاً غامِضاً
تتحدُّ فيه عناصرُ المِيتافيزيقا،
تُراقصُ فيه المتشابهاتُ بعضهَا
رقصَة الأضداد
على الجسْر المُتهالك
للمعنى.


(9)

أخشى من الجرْي الأعمى
خلفَ مَا ليسَ لي،
من كلِّ ما يُبللُ و لا يُغرِق،
من حِيل البقاء، و الغرائز،
بينما لا يزالُ في وسعي
أن أنفقَ هواءَ صدري كله
على الشموع المُلونة
- بلا رعبٍ حقيقي -
من التشرّد في صحراء الحنين
إلى أبد الآيسين.


(10)

أحبك: شهقة الممكن في صدر المستحيل. 




نشرت في صحيفة (آراء) الإلكترونية: http://www.araa.com/article/74265#sthash.bS6MVTgC.dpuf

مسافة النبضة




(1)

شهادة ميلادي التي أسقطت عنّي اسم القبيلة كانت مُحقّة. كان هذا يتلاءم مع نقصها الفادح و إغفالها لتفاصيل تُعرّفني أكثر من رقم السّجل، و ساعة الميلاد. كان يمكن أن يعاد ملؤها بعد ثلاثة وعشرين عاماً، حيثُ التفاصيل ناصعةٌ كما ينبغي:
- العينان الواسعتان كفخٍ فاتن.
- القلب المَلول/ المثقوب من فرط الاعتياد.
- الرّوح التي تتحرّق لهفةً كجناح طائرة كلما توّرد طيف الرّحيل على شِغاف البال.
- الحس الهشّ كوريقة خريفية الاستسلام.
- القدم التي تركلَ الأسماء و الصفات و تفعيلات العروض و حتمية التاريخ و المصير- بسخريةٍ لاذعة.
- الكفُّ التي لا تكف عن مطاردة فراشات الإجابات الهاربة بإلحاحِ من ليس لديه أيّ شيء، و يرغب في كل شيء !
-----

(2)

كنت أظن أن الأرجوحة لا تختلف عن القارب الشراعي، و أن كلاهما لا يتحركان بلا ريح. لم أفكر طويلاً في الأمر إذ كانت ذراعاك الرّيح التي تدفع أرجوحتي عالياً. كم كنت حكيماً عندما بترت أجنحة هذه الفكرة باكراً، و قلت لي: ساقاكِ القصيران هما الريح -وحدهما الريح- لأنكِ ستكبرين يوماً و ستضطرين للتجديف لوحدك.
 كبرتُ و أنا عالقةٌ في لُعبة الجدوى، أدفع جسدي بكل ما امتلأ به من توقٍ للأمام، ثم تتكفل طبيعة الفيزياء بإكمال المعادلة، أعود للوراء بنفس القوة تلقائياً. يسعني القول بأنني الآن على رصيف محطّة درويش، لا النسيان يُقصيني، و لا التذكر يدنيني، و على الرغم من أنني لم أرَ يوماً قطاراً يمرُّ من هنا، إلا أنني مازلتُ أنتظر.

-----

(3)

كنتُ صغيرةً جداً على دولاب الهواء يوم دفعتني للركوب فيه وحدي أيضاً، لكنها لم تكن فكرة مخيفة في البدء؛ لأنك لم تحذرني من المرتفعات و لا من شبح الرّيح. الهواء البارد الذي جعلني أنكمش على نفسي لم يطفئ حرارة الدهشة التي اتقدت في عينيّ لحظتها، هكذا ظل العالم فيما بعد يا أبي، دولاب هواءٍ كبير، تلسعني فيه الرّياح و الدّهشة، و لا ذنب لي فيه سوى أنني - بلا اختيارٍ- ركبتُ!

-----
(4)

 الطفلة التي كانت تتعامل مع المرآة كما لو أنها مركبة للسّفر عبر المكان و الوقت، و كما لو كانت شخصاً آخر يستثير ذاكرتها- مخيلتها لتقصّ عليها نهايات الحكايات التي لم تحدث، ظلت تهذي  لمرايا جديدة أقلّ بياضاً و اتساعاً، لكنها لم تعد تبحث عن النّمل الذي يغني مختبئاً في فتحات جهاز التسجيل، منذ أن درست مقرر العلوم.
لستُ واقعيةً يا أمي، أليس هذا مبرراً كافياً لأفقد تعاطفي مع فكرة التأقلُم ؟

-----

(5)

لا أعرف على من ألقي الملامة، لذا تكثر الأوجه المتشابهة حولي، تمتزج أصواتها المتباينة في أذني، لأسمعها في أغنية/ لعبة صديقات طفولتي: " ليلى يا ليلى .. ليش عم تبكي"؟ ليلى التي تختار إحدى صديقاتها لتضعها في مكانها لتبكي عوضاً عنها، لم تعد قاسية لهذا الحد؛ لأنها تعرف أن وجوه صديقاتها ليست إلا وجهها المزدحم بالألعاب المكسورة!
----

(6)

أسألك مِراراً: كم يلزمنا من مسافة السّفر لنكون قد هربنا حقاً ؟ كيف أنتقم من قميص الحيلة الشرعية القذر الذي يسخر من عُريي كلما قلت (لا) ؟ يريحني أنك لست شاعراً يبارك حماقتي بمجاراتها، و لا صياداً يرقص كالهنود الحمر حول تمرّدي. يطمئنني أن تحب حزن عينيّ، و أن تخطفه من يده لتعلمه رقصة زوربا، و أن نلتقي في كل مرة عند مطلع الأفق، بوجهين متشابهين كفلقتي جوزة رغم أننا سلكنا طريقين مختلفين. أيها الغريب .. كم كان غريباً أن نلتقي في قلب المدينة التي شبعت من الموت، و نظل ضاجّين بالحياة و السّخرية إلى هذا الحد، كم كان غريباً أن أرفع رأسي لأراك، فتسحبني المرآة في عينك إلى قعر روحي.

----

(7)

أفكرُّ للمرة الأولى في أن يدي لي. يدي التي تشيد اليوتوبيا على الورق، يدي التي باتت تنكرني لفرط ما تلاشت في البعيد الأبيض، و في أسود المحرّمات بنفس الحد من الغرق اللاشعوري، فامتلأت جيوبي بأيدي الغرباء الذين تشير أصابعهم دائماً إلى مصابيح الشارع، و لسببٍ غامضٍ بقيتُ أحدّق في هوة العتمة بين المصباح و المصباح، حتّى اكتملت آية الأضداد. لم أفكّر بأنّي نجوتُ حتى اللحظة التي هممت فيها بمصافحتي. قالت يدك: أنا الكلمة، و لم يخالجني شكٌ في أنك معناها، فكُتِبتْ لي النجاةُ شِعراً.

----

(8)

أقول لقدمي التي تضغط على مكابح السّيارة: لا تخذليني؛ لعلنا اقتربنا. لعلّ مسافة المتر بيني و بين السيارة أمامي كافيةٌ للنجاة، مسافة المترين بيني و بين حافة الجسر ليست سيئة أيضاً، و لا شأن لي الآن بالمسافات التي أجهلها بين الفيروسات و الأجسام المضادة في جسدي. أقول لقدمي أشياء كثيرة لكنها لا تنصتُ، فذاكرتي التي تحرضها عليّ ملأى بالشهود على احتمالات كذبي، أعداد القتلى في نشرات الأخبار، وجه عامل النظافة الذي تتماهى فيه الدموع مع العرق، الموتُ الذي يدخل نصف جسده من نافذتي و نوافذ بقية الجيران بين حينٍ و آخر. ربما لن أيأس من إقناعها بما أقول فأنا أؤمن - لسببٍ غير واضح - بمسافة النبضة، الالتفاتة، الوخزة بيني و بين سُكون آخر المُنعطَف.




نشرت في صحيفة (آراء) الإلكترونية: http://www.araa.com/article/79139