(1)
شهادة
ميلادي التي أسقطت عنّي اسم القبيلة كانت مُحقّة. كان هذا يتلاءم مع نقصها الفادح
و إغفالها لتفاصيل تُعرّفني أكثر من رقم السّجل، و ساعة الميلاد. كان يمكن أن يعاد
ملؤها بعد ثلاثة وعشرين عاماً، حيثُ التفاصيل ناصعةٌ كما ينبغي:
- العينان
الواسعتان كفخٍ فاتن.
- القلب
المَلول/ المثقوب من فرط الاعتياد.
- الرّوح
التي تتحرّق لهفةً كجناح طائرة كلما توّرد طيف الرّحيل على شِغاف البال.
- الحس الهشّ
كوريقة خريفية الاستسلام.
- القدم
التي تركلَ الأسماء و الصفات و تفعيلات العروض و حتمية التاريخ و المصير- بسخريةٍ
لاذعة.
- الكفُّ
التي لا تكف عن مطاردة فراشات الإجابات الهاربة بإلحاحِ من ليس لديه أيّ شيء، و
يرغب في كل شيء !
-----
(2)
كنت أظن
أن الأرجوحة لا تختلف عن القارب الشراعي، و أن كلاهما لا يتحركان بلا ريح. لم أفكر
طويلاً في الأمر إذ كانت ذراعاك الرّيح التي تدفع أرجوحتي عالياً. كم كنت حكيماً
عندما بترت أجنحة هذه الفكرة باكراً، و قلت لي: ساقاكِ القصيران هما الريح -وحدهما
الريح- لأنكِ ستكبرين يوماً و ستضطرين للتجديف لوحدك.
كبرتُ و أنا عالقةٌ في لُعبة الجدوى، أدفع جسدي
بكل ما امتلأ به من توقٍ للأمام، ثم تتكفل طبيعة الفيزياء بإكمال المعادلة، أعود للوراء
بنفس القوة تلقائياً. يسعني القول بأنني الآن على رصيف محطّة درويش، لا
النسيان يُقصيني، و لا التذكر يدنيني، و على الرغم من أنني لم أرَ يوماً قطاراً يمرُّ من هنا،
إلا أنني مازلتُ أنتظر.
-----
(3)
كنتُ
صغيرةً جداً على دولاب الهواء يوم دفعتني للركوب فيه وحدي أيضاً، لكنها لم تكن
فكرة مخيفة في البدء؛ لأنك لم تحذرني من المرتفعات و لا من شبح الرّيح. الهواء
البارد الذي جعلني أنكمش على نفسي لم يطفئ حرارة الدهشة التي اتقدت في عينيّ
لحظتها، هكذا ظل العالم فيما بعد يا أبي، دولاب هواءٍ كبير، تلسعني فيه الرّياح و
الدّهشة، و لا ذنب لي فيه سوى أنني - بلا اختيارٍ- ركبتُ!
-----
(4)
الطفلة التي كانت تتعامل مع المرآة كما لو أنها
مركبة للسّفر عبر المكان و الوقت، و كما لو كانت شخصاً آخر يستثير ذاكرتها-
مخيلتها لتقصّ عليها نهايات الحكايات التي لم تحدث، ظلت تهذي لمرايا جديدة أقلّ بياضاً و اتساعاً، لكنها لم
تعد تبحث عن النّمل الذي يغني مختبئاً في فتحات جهاز التسجيل، منذ أن درست مقرر العلوم.
لستُ
واقعيةً يا أمي، أليس هذا مبرراً كافياً لأفقد تعاطفي مع فكرة التأقلُم ؟
-----
(5)
لا أعرف
على من ألقي الملامة، لذا تكثر الأوجه المتشابهة حولي، تمتزج أصواتها المتباينة في
أذني، لأسمعها في أغنية/ لعبة صديقات طفولتي: " ليلى يا ليلى .. ليش عم تبكي"؟
ليلى التي تختار إحدى صديقاتها لتضعها في مكانها لتبكي عوضاً عنها، لم تعد قاسية
لهذا الحد؛ لأنها تعرف أن وجوه صديقاتها ليست إلا وجهها المزدحم بالألعاب
المكسورة!
----
(6)
أسألك
مِراراً: كم يلزمنا من مسافة السّفر لنكون قد هربنا حقاً ؟ كيف أنتقم من قميص الحيلة
الشرعية القذر الذي يسخر من عُريي كلما قلت (لا) ؟ يريحني أنك لست شاعراً يبارك
حماقتي بمجاراتها، و لا صياداً يرقص كالهنود الحمر حول تمرّدي. يطمئنني أن تحب حزن
عينيّ، و أن تخطفه من يده لتعلمه رقصة زوربا، و أن نلتقي في كل مرة عند مطلع
الأفق، بوجهين متشابهين كفلقتي جوزة رغم أننا سلكنا طريقين مختلفين. أيها الغريب
.. كم كان غريباً أن نلتقي في قلب المدينة التي شبعت من الموت، و نظل ضاجّين
بالحياة و السّخرية إلى هذا الحد، كم كان غريباً أن أرفع رأسي لأراك، فتسحبني
المرآة في عينك إلى قعر روحي.
----
(7)
أفكرُّ للمرة
الأولى في أن يدي لي. يدي التي تشيد اليوتوبيا على الورق، يدي التي باتت تنكرني
لفرط ما تلاشت في البعيد الأبيض، و في أسود المحرّمات بنفس الحد من الغرق
اللاشعوري، فامتلأت جيوبي بأيدي الغرباء الذين تشير أصابعهم دائماً إلى مصابيح
الشارع، و لسببٍ غامضٍ بقيتُ أحدّق في هوة العتمة بين المصباح و المصباح، حتّى اكتملت
آية الأضداد. لم أفكّر بأنّي نجوتُ حتى اللحظة التي هممت فيها بمصافحتي. قالت يدك:
أنا الكلمة، و لم يخالجني شكٌ في أنك معناها، فكُتِبتْ لي النجاةُ شِعراً.
----
(8)
أقول
لقدمي التي تضغط على مكابح السّيارة: لا تخذليني؛ لعلنا اقتربنا. لعلّ مسافة المتر
بيني و بين السيارة أمامي كافيةٌ للنجاة، مسافة المترين بيني و بين حافة الجسر
ليست سيئة أيضاً، و لا شأن لي الآن بالمسافات التي أجهلها بين الفيروسات و الأجسام
المضادة في جسدي. أقول لقدمي أشياء كثيرة لكنها لا تنصتُ، فذاكرتي التي تحرضها
عليّ ملأى بالشهود على احتمالات كذبي، أعداد القتلى في نشرات الأخبار، وجه عامل
النظافة الذي تتماهى فيه الدموع مع العرق، الموتُ الذي يدخل نصف جسده من نافذتي و
نوافذ بقية الجيران بين حينٍ و آخر. ربما لن أيأس من إقناعها بما أقول فأنا أؤمن -
لسببٍ غير واضح - بمسافة النبضة، الالتفاتة، الوخزة بيني و بين سُكون آخر
المُنعطَف.
نشرت في صحيفة (آراء) الإلكترونية: http://www.araa.com/article/79139
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق