الاثنين، 15 نوفمبر 2010

لوحة القمر ( قصة قصيرة )

ليلة باردة .. القمر يطل من خلف الغيم فرحاً بتمكنه من الظهور من دون النجمات .. يمشي الناس في السوق الكبير دون أن يلتفتوا إلى ما غشيهم من بردٍ و عتمة .. و يمشي الأستاذ وليد بينهم .. تتساقط الخواطر على رأسه المنتفخ فلا تزيده إلا انتفاخاً ...

"هنيئاً لك يا أستاذ .. أنت تستحق هذه الجائزة بجدارة !

مبارك لك .. هذا ما عهدناه منك دوماً .. أنت مبدع .. مبدع !!"

كلمات قديمة ، صارت معتادة لديه إلا أنه مازال يتلذذ بها .. و مازالت قادرة على إشباع روحه الخاوية .. يرفع رأسه و بابتسامة مريضة يسحب الهواء الملوث بدخان سيجارته إلى صدره المتعفن ..

يعود الأستاذ وليد إلى شقته الصغيرة .. يتجه إلى جهاز التسجيل .. يضغط على زر التشغيل لتملأ الموسيقى أنحاء المكان المثقل بالغبار و الفوضى .. يلقي بنفسه بين اللوحات غير المكتملة و يبدأ برسم لوحته الجديدة .. ألوان متضاربة .. عيون و ألسنة .. و كان هناك قمر رمادي .. اجتهد في محاولة تغيير لونه إلى لون أفتح بقليل لكن لا جدوى من ذلك ! ينتفض هاتفه النقال مكدراً صفو انسجامه مع الألوان ..

- مساء الخير يا وليد !

- من هو وليد هذا ؟ قل الأستاذ وليد لو سمحت !

- نعم .. آسف نسيت ذلك يا أستاذ !!!

يبدو أنك تغيرت كثيراً يا صاحبي ..

- ألأجل هذا كلفت نفسك عناء الاتصال ؟

- لا .. و إنما رغبت في تهنئتك على نيلك للجائزة .. و ...

- شكراً جزيلاً لك .. هذا من طيب أصلك يا أخي العزيز .. و اعذرني على تقصيري معك فالعمل يجعلني متكدراً بعض الشيء ..

- لا بأس يا أستاذي .. لا بأس ! لا أود أن أطيل عليك و لكن لدي تعليق على لوحتك الفائزة .. أرى أنها تفتقر إلى مقومات اللوحة الناجحة ..

- ههههه !! و كيف فازت في المسابقة إذن ؟!!

- إنها مسابقة صغيرة و حسب .. كما أن لجنة التحكيم لم تكن متخصصة في هذا اللون من الفن ! و أذكرك بأن المتسابقين لم يكونوا .....

- كفاك سخفاً ! إن كنت لا تجد ما تشغل به وقتك فلا تتصل بي ! أنت مجرد غيور لا أكثر !!

يغلق سماعة الهاتف .. يرفع صوت المسجل و هو يستشيط غيظاً .. ثم يبدأ بالخربشة على أجزاء اللوحة التي يكاد القمر الرمادي يغطيها تماماً !!

يشعر برغبة في التنفيس عن غضبه .. يحمل معطفه القذر و يتأبط لوحته ثم يتجه إلى الشارع من جديد .. يدخل إلى المقهى القريب ، يلمح وجهاً يخاف رؤيته في مثل هذا الوقت و قبل أن يخرج ناداه صاحب الوجه الثقيل : أهلاً بالأخ وليد !

و بالرغم من رغبته في الهروب لم يستطع أن يمضي دون أن يرد عليه بتلك الكلمة العالقة بين شفتيه : " أنا لست وليد !! لمَ لا تفهمون !! أنا الأستاااااذ وليد !! ".

- لا بأس يا حضرة الأستاذ .. اعذرنا نسينا مقامك العالي .. و لكن هلا دفعت الحساب ! منذ أشهر و أنت تدخل المقهى و تخرج منه دون أن تدفع ريالاً واحداً !!

- أ .. أنت تدري أنني لا أملك شيئاً الآن ... جيوبي فارغة تماماً !!

- هذا ليس من شأني .. لقد صبرت عليك طويلاً و يجب عليك أن تدفع الآن و إلا أبلغت الشرطة!

- هدئ من روعك يا رجل ! أنا لست زبوناً عادياً هنا .. كما أننا إخوة .. أنسيت ذلك يا صاحبي ؟

- لا لم أنسَ أنك الأستاذ وليد ! .. أمامك يومان لتتدبر أمرك و إلا فلا تلم إلا نفسك !

- أحمق ! فارغ !! لا يهمك إلا المال .. أنتم كلكم هكذا .. وحوش تلتهم المادة بلا أية رحمة .. ماتت أرواحكم .. غدت خالية من الجمال !

- فليكن كذلك يا سيدي .. لكن دعني أخبرك بأنك مازلت طفلاً لا تعي حرفاً مما تقول !! لأنك فارغ حقاً .. أكثر من أي شخص آخر.. لا أحد يلزمه وجودك معه .. إلا لوحاتك المبهمة تلك .. ربما تحتاجك لتشعر على الأقل بأن هناك من ينظر إليها !!

- و من أنت حتى تتجرأ على الحديث عن الفن أيها الطباخ العجوز ؟؟

..........

و يبدو أن تلك الليلة أبت أن تمضي بسلام فقد نشب عراك عنيف بين الرجلين أدّى إلى إصابة صاحب المقهى بجرحٍ بليغ أفقده الوعي .. تحلق الناس .. و حضرت سيارات الشرطة لاقتياد وليد إلى المركز بينما نُقل المصاب إلى المشفى .. و أمام الضابط حاول الأستاذ وليد تبرير فعلته تلك بأن صاحب المقهى قد تجرأ عليه و على فنه ، لكن هذا لم يشفع له فقد أُدخل السجن ...

الصباح الأول لوليد خلف القضبان كان مرعباً بين تلك الوجوه الغريبة القاتمة .. كانوا أشبه بالأموات .. لا يعنيهم شيء و هذا لا يروق للأستاذ وليد ، شعر بالملل و الوحشة فأخرج لوحة القمر البائسة التي لم تفارقه منذ البارحة .. بدأ برسم عيني القمر .. كانتا تشبهان عينيه الضيقتين .. كان مستغرقاً في الرسم بالرغم من عدم وجود الموسيقى و جهاز التسجيل .. فجأةً سمع ضحكة ساخرة من خلفه .. التفت ليرى أحد السجناء أمامه فسأله :

- مالذي يضحكك أيها الأخ ؟

- ما ترسمه !! إنه مضحك جداً !! لماذا ترسم إن كنت لا تجيد الرسم ؟

- اصمت !! أنت لا تفهم شيئاً في الفن الحديث !!!

- معك حق أنا لا أفهم ...! قل لي ما اسمك ؟ و ماذا تعمل ؟

- اسمي الأستاذ .. الأستاذ وليد أعمل رساماً

- و هل الرسم عمل ؟ إذن كم راتبك يا عزيزي ؟

أدار الرجل ظهره و هو يقهقه من جديد .. قال رسام قال !!

لم يأبه وليد به .. أكمل رسم القمر .. و رسم حوله أفواهاً كثيرة تمزقه قطعة قطعة ..

غرس وليد مسماراً على أحد الجدران ليعلّق اللوحة عليه .. و عندها اقترب الجميع ليشاهدوها .. ضحكوا كثيراً .. و ظل الأستاذ وليد حائراً .. يجهل سر ذاك الضحك .. أهو منظر الأفواه التي تحيط بالقمر أم هو القمر الرمادي الذي أضحكهم ؟!!

فاطمة إحسان صادق اللواتي

سبتمبر / 2006

مدينة البهاء

تُطوى ملامحكِ

تختبئ في خزائن ذاكرتي

مبعثرة الحروف

طرقاتكِ و قبابكِ الزرقاء

و صخبكِ الأحمر المجنون

حكاياتٌ لم تجد لها مرسى

فبقيت معلقة بقلوب العابرين

تعويذة عمياء

تطأ أراضي الجمال

و تمحو منها أرقام التاريخ

و تغدو أميرةً معجونة

بسحرٍ لا يعرف الرحمة ،

لا يبصر للارتواء طريقاً !

مدينة البهاء ..

شمسٌ تبدد سكون الغروب

و ترسم حكايته الأزلية

على أكتاف الغمام

تُلَــوِّح لنوارس

اتخذت من البحر طريقاً

و مضت تجر حسنها

على موج الفتنة

مسحوبةً إلى حسناء

زادها الأفول بريقاً .

فاطمة إحسان اللواتي

اغسطس / 2006

( اسطنبول )

متاهات البوح







صمتاً ..


و اصغِ إلى وقع الحروف على مستنقع الجمود


همساً تكسر قبل أن ينحني


كقيثارة منتشية أخرس الموت أنينها قبل الاحتضار


عبثت بها أنامل تبحث عن نوافذ للبوح


بين جمود الأوتار


تشق الطريق بين أنياب السكون


لترتطم بالمرايا


و الوجه الساكن نفسه


عندما يلتصق بكل الوجوه


يُلبسها الابتسامات و يخلعها عنها


كأثواب الفصول على الشجر


و لأناملي صمتٌ يغتاله صرير القلم


و لها ألواح تتشبث بها


في رحلة سفرٍ بين ضفتين


لا تحملان العناوين


فمسالك الضياع لا يمكن أن تكون مأوى


إلا للغرقى أو للغرباء التائهين


فأطل الإصغاء


إلى أن يحين موعد الغرق


على الألواح أو تحتها


و تنتهي رحلة السفر


بتصلب أناملي


أو انقطاع الوتر .




فاطمة إحسان صادق اللواتي


يونيو / 2007

ملامــ ــح




تفاصيل اللوحة الأخيرة


لا تشبه مسوداتي على شفير البوح


لا تجرؤ على اقتيادي لمنصة الاستسلام


لملم حطام الرحيل من هنا


فلا صمت يحرك آثار الطبشور المتلاشي


عن قيثارة الألوان


هلوسات كهذه قد تبعثر هوامش الصورة


تركنها إلى زوايا الإطار


تبدأ فيها عمراً من حصار


تشكل فيها بقية ملامحي


بكل الخطوط المثقلة و الألوان المهملة


لا أرى إلا إطاراً


لا أسمع إلا صفير اللوح


و استغاثة الألوان من خلف الجدار المحنط


دوامة صدى بعيد


لا تلتقطه إلا المرايا


تلملمه كشظايا زهر ربيع


تزرعه بعيداً عن تلك الأيدي


بين قضبان و زوايا أربع


بين سكك الصخب و حكايات الشغب


و غاب فيها النداء و تلاشت الأسماء


كمدائن رفعت عنها رحمة السماء


رقصت فيها خيالات تنعى أنفاسها


بحثاً عن عنوان على خارطة الألوان


لم يحوها إلا ذاك الجدار


اشترط عليها ارتداء سلسلة


قبل أن يلقي عليها من الأثواب إطار .

فاطمة إحسان صادق اللواتي

ابريل / 2007

رقصٌ على ساحل الظلام



ولِدنــا معــاً



و كان هذا قدرنــا



كنتِ تُزهِريــن كلما رقص المطر



و تختبئين في ظِلال الشجــر



تعقدين ضفائــركِ على عنقــي



تشبكين قنابلكِ اللا موقوتة بِفساتين عُمري



تطرحين رواياتكِ البائسة



عَلى طاوِلتي



تُخفيــنها بصحيفةٍ



و فنجانٍ مقلــوب



لم تلمسه يدا عَرّافــةٍ أبداً



و كُنتِ تهمسيــن بلغة لا أفهمها



تأمريننــي بالابتعــاد



عن النّوافذ السّقيــمة



المكللة بالضباب



لتتسنى لكِ بعثرته



بحروف اسمكِ الجوفاء



" غُــ ـربــ ـــ ــة "



ظننتكِ ظلاً تهادى على شطآني و رحل



لكنكِ ما زلتِ ورائي تركضيــن



و ديــاري تستوطنيـــن



تلطخين الوجوه



بألوان مبهمة !



و تــدّعين بأنــكِ



كنتِ و ما زلتِ



لي مُلهِمــــة !



مَــعاً ولدنـــا أيتها العجوز



و أخشى ألّا ترحلي



فيبقى عالمي



رهيــن غمامة



لا تنجلي .




فاطمة إحسان صادق اللواتي


ابريل / 2009



قارب الأمنيات



قارب الأمنيات





أكتب إليكِ كما في كل رسائلنا القديمة


بدايةً من آخر السّطرِ


و الشِّــعر يمد جدائله إليّ


بدءاً من بحركِ


انتهاءً إلى أطراف ذاكرتي


قصصٌ لم تمتد إليها أنامل الغبارِ لتحرقـــها


و لمْ تُدرِك حُنـجَرةُ الريْحِ فحـوَاهـَـا لـِتحكيها


مذ يوم كنتُ - رغماً عن أنوف آمالي -


ناثرةً لأساورِ الحَنين على الشرفاتِ البعيداتِ


و كنتِ الشمعة اللامنسية


كنتِ الكنز المخبوء بين أثمن صفحاتي


لعلّي وقتها كنت لا أتقن تهجئة حروف الوَطن


أجهَـلُ حتى ترتيب ألوَان العَــلــَم


لكني رسمتكِ حتى على الخارطةِ الغريبة


لونتُ فيكِ النخيل و القلاعَ


و القارب الذي دفنتُ فيه أمنيتي الوحيدة


و النجيمات اللاتي عددتهن للمرة الأولى


زرنني مع أطيافٍ عانقها شيءٌ من وهْجـِك


و قـُبيل رحيلها مع آخر أنوار أمسيتي


همستِ لي :


سيعود ليجمعنا صخب اللقيــا


و ضممتُ شيئاً فيكِ إليّ حُبــاً


لم أكن أدري بأنكِ قد كذبتِ يومها


أو أنكِ كنتِ مثلي


لا تعرفين بأننا .. سنعود لنفترقْ !


و بأن سمائكِ ستزفني إلى الأرض البعيدة


أيـَا أنشودة تسللت من بين يديّ


مفاتيحها الأولى ،


يُخبرني صوتي بأني سأعود إليكِ


لألتقط الأمنية من قعر القاربِ المهْجــور


و أُبحر إلى النجم الذي باتت مسقـــط تحرسه


و إلى الميناء الذي جفّ عليه حبر آخر الرسائل


و لعل الوعد ليلتها


يمسي محض شفرة


للوصول إلى أول الأمنيات .




فاطمة إحسان اللواتي

ليلة على شط الفرات




عروس تتهادى بثوبها اللؤلؤي الأبيض على الرمال السمراء


التي تتناثر حولها و تهمس لها بحروف هائمة


لتبتسم العروس و تصبغ خديها بلون الورد


حينها يزحف البدر رويداً رويداً


يمسك بأطراف سحابة قطنية


و يخفي نفسه خلفها خجلاً ...


تتبعه النجوم


فتأفل و تندثر


و كأنها لم تكن


في أرجاء الكون تنتشر !



__ __ __ __ __



هذه الليلة لا قمر و لا نجوم ...


أطفأتها الحسناء


أوليس هذا من حقها ؟


فهذه ليلتها ... !


و لها أن تسرق كل النور


و تخبئه بين طيات ثوب عرسها ... !


__ __ __ __ __ __



تدغدغ النسمات سطح الفرات


فيعدو ضاحكاً


و النخلات من حوله يغبطنه فرحاً


اليوم تزف بغداد على شط الفرات بكامل حليها


و تتوج رأسها بأكاليل أمجاد الماضي العبق


و تسكب في عينيها بلسم الأمل لغدٍ مشرق


فترتعش طرباً ... !



__ __ __ __ __ __ __



" لمن ستزفين يا بغداد ؟ "


هكذا زعقت الكلاب الحمراء


و انقضت على الحسناء


لتلطخ بياض ثوبها بالدماء الطاهرة


فامتزج النور بالنور


و رحلت بغداد ... !


__ __ __ __ __ __ __



أشرقت الشمس مقطبة الجبين ...


و الطيور تعزيها بغنائها الحزين ...


تتراقص على الغصون بعدما ذبحت ألماً ... !


بغداد ... لا تحزني ... ستعودين !


لنبدأ عرساً جديداً


يومها سنراكِ معطرة بطهر مساجدكِ


مكللة بالرياحين


و محفوفة بالياسمين


سنراكِ يا بغداد مجددا تبتسمين .





فاطمة إحسان اللواتي

نوفمبر - 2006