ليلة باردة .. القمر يطل من خلف الغيم فرحاً بتمكنه من الظهور من دون النجمات .. يمشي الناس في السوق الكبير دون أن يلتفتوا إلى ما غشيهم من بردٍ و عتمة .. و يمشي الأستاذ وليد بينهم .. تتساقط الخواطر على رأسه المنتفخ فلا تزيده إلا انتفاخاً ...
"هنيئاً لك يا أستاذ .. أنت تستحق هذه الجائزة بجدارة !
مبارك لك .. هذا ما عهدناه منك دوماً .. أنت مبدع .. مبدع !!"
كلمات قديمة ، صارت معتادة لديه إلا أنه مازال يتلذذ بها .. و مازالت قادرة على إشباع روحه الخاوية .. يرفع رأسه و بابتسامة مريضة يسحب الهواء الملوث بدخان سيجارته إلى صدره المتعفن ..
يعود الأستاذ وليد إلى شقته الصغيرة .. يتجه إلى جهاز التسجيل .. يضغط على زر التشغيل لتملأ الموسيقى أنحاء المكان المثقل بالغبار و الفوضى .. يلقي بنفسه بين اللوحات غير المكتملة و يبدأ برسم لوحته الجديدة .. ألوان متضاربة .. عيون و ألسنة .. و كان هناك قمر رمادي .. اجتهد في محاولة تغيير لونه إلى لون أفتح بقليل لكن لا جدوى من ذلك ! ينتفض هاتفه النقال مكدراً صفو انسجامه مع الألوان ..
- مساء الخير يا وليد !
- من هو وليد هذا ؟ قل الأستاذ وليد لو سمحت !
- نعم .. آسف نسيت ذلك يا أستاذ !!!
يبدو أنك تغيرت كثيراً يا صاحبي ..
- ألأجل هذا كلفت نفسك عناء الاتصال ؟
- لا .. و إنما رغبت في تهنئتك على نيلك للجائزة .. و ...
- شكراً جزيلاً لك .. هذا من طيب أصلك يا أخي العزيز .. و اعذرني على تقصيري معك فالعمل يجعلني متكدراً بعض الشيء ..
- لا بأس يا أستاذي .. لا بأس ! لا أود أن أطيل عليك و لكن لدي تعليق على لوحتك الفائزة .. أرى أنها تفتقر إلى مقومات اللوحة الناجحة ..
- ههههه !! و كيف فازت في المسابقة إذن ؟!!
- إنها مسابقة صغيرة و حسب .. كما أن لجنة التحكيم لم تكن متخصصة في هذا اللون من الفن ! و أذكرك بأن المتسابقين لم يكونوا .....
- كفاك سخفاً ! إن كنت لا تجد ما تشغل به وقتك فلا تتصل بي ! أنت مجرد غيور لا أكثر !!
يغلق سماعة الهاتف .. يرفع صوت المسجل و هو يستشيط غيظاً .. ثم يبدأ بالخربشة على أجزاء اللوحة التي يكاد القمر الرمادي يغطيها تماماً !!
يشعر برغبة في التنفيس عن غضبه .. يحمل معطفه القذر و يتأبط لوحته ثم يتجه إلى الشارع من جديد .. يدخل إلى المقهى القريب ، يلمح وجهاً يخاف رؤيته في مثل هذا الوقت و قبل أن يخرج ناداه صاحب الوجه الثقيل : أهلاً بالأخ وليد !
و بالرغم من رغبته في الهروب لم يستطع أن يمضي دون أن يرد عليه بتلك الكلمة العالقة بين شفتيه : " أنا لست وليد !! لمَ لا تفهمون !! أنا الأستاااااذ وليد !! ".
- لا بأس يا حضرة الأستاذ .. اعذرنا نسينا مقامك العالي .. و لكن هلا دفعت الحساب ! منذ أشهر و أنت تدخل المقهى و تخرج منه دون أن تدفع ريالاً واحداً !!
- أ .. أنت تدري أنني لا أملك شيئاً الآن ... جيوبي فارغة تماماً !!
- هذا ليس من شأني .. لقد صبرت عليك طويلاً و يجب عليك أن تدفع الآن و إلا أبلغت الشرطة!
- هدئ من روعك يا رجل ! أنا لست زبوناً عادياً هنا .. كما أننا إخوة .. أنسيت ذلك يا صاحبي ؟
- لا لم أنسَ أنك الأستاذ وليد ! .. أمامك يومان لتتدبر أمرك و إلا فلا تلم إلا نفسك !
- أحمق ! فارغ !! لا يهمك إلا المال .. أنتم كلكم هكذا .. وحوش تلتهم المادة بلا أية رحمة .. ماتت أرواحكم .. غدت خالية من الجمال !
- فليكن كذلك يا سيدي .. لكن دعني أخبرك بأنك مازلت طفلاً لا تعي حرفاً مما تقول !! لأنك فارغ حقاً .. أكثر من أي شخص آخر.. لا أحد يلزمه وجودك معه .. إلا لوحاتك المبهمة تلك .. ربما تحتاجك لتشعر على الأقل بأن هناك من ينظر إليها !!
- و من أنت حتى تتجرأ على الحديث عن الفن أيها الطباخ العجوز ؟؟
..........
و يبدو أن تلك الليلة أبت أن تمضي بسلام فقد نشب عراك عنيف بين الرجلين أدّى إلى إصابة صاحب المقهى بجرحٍ بليغ أفقده الوعي .. تحلق الناس .. و حضرت سيارات الشرطة لاقتياد وليد إلى المركز بينما نُقل المصاب إلى المشفى .. و أمام الضابط حاول الأستاذ وليد تبرير فعلته تلك بأن صاحب المقهى قد تجرأ عليه و على فنه ، لكن هذا لم يشفع له فقد أُدخل السجن ...
الصباح الأول لوليد خلف القضبان كان مرعباً بين تلك الوجوه الغريبة القاتمة .. كانوا أشبه بالأموات .. لا يعنيهم شيء و هذا لا يروق للأستاذ وليد ، شعر بالملل و الوحشة فأخرج لوحة القمر البائسة التي لم تفارقه منذ البارحة .. بدأ برسم عيني القمر .. كانتا تشبهان عينيه الضيقتين .. كان مستغرقاً في الرسم بالرغم من عدم وجود الموسيقى و جهاز التسجيل .. فجأةً سمع ضحكة ساخرة من خلفه .. التفت ليرى أحد السجناء أمامه فسأله :
- مالذي يضحكك أيها الأخ ؟
- ما ترسمه !! إنه مضحك جداً !! لماذا ترسم إن كنت لا تجيد الرسم ؟
- اصمت !! أنت لا تفهم شيئاً في الفن الحديث !!!
- معك حق أنا لا أفهم ...! قل لي ما اسمك ؟ و ماذا تعمل ؟
- اسمي الأستاذ .. الأستاذ وليد أعمل رساماً
- و هل الرسم عمل ؟ إذن كم راتبك يا عزيزي ؟
أدار الرجل ظهره و هو يقهقه من جديد .. قال رسام قال !!
لم يأبه وليد به .. أكمل رسم القمر .. و رسم حوله أفواهاً كثيرة تمزقه قطعة قطعة ..
غرس وليد مسماراً على أحد الجدران ليعلّق اللوحة عليه .. و عندها اقترب الجميع ليشاهدوها .. ضحكوا كثيراً .. و ظل الأستاذ وليد حائراً .. يجهل سر ذاك الضحك .. أهو منظر الأفواه التي تحيط بالقمر أم هو القمر الرمادي الذي أضحكهم ؟!!
فاطمة إحسان صادق اللواتي
سبتمبر / 2006
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق