السبت، 15 ديسمبر 2012

رجل الجوزاء (قصة قصيرة)

 
 
 

لست واثقة من أن شفتيك تبتسمان، إلا أن ضحكات عينيك لا تخطئوني، وإن كنت خلف الزجاج الملون نصف الشفاف بنصف ملامحك، ولا أدري إن كنت تتعمد الجلوس يومياً في هذا المكان بالتحديد، إلا أن وجهك الهارب من عينيّ، يوحي بأنه من الممكن لكل مصادفات العالم أن تجتمع يومياً في وقت استراحتي، لتأتي بك إلى صف المقاعد المجاورة لمكتبي، يمكن لكل شيء أن يترتب بمنتهى الدقة، لينفض عني فقط فكرة تعمدك اختيار المكان والزمان الحاليين، حيث مرورك العابر المضطرب لا أكثر. يؤرقني اجتيازك لكل ما أتعثر به على جناح الخِفة، لذا أبحث في بياضك عن شيفرة سرياليتي العقيمة.

أراقب زاوية برج الجوزاء، وهي تتسع على الطاولة، تستطيل كأنها ابتسامتك منعكسة على صفحة المجلة: "لكي تعرفي رجل برج الجوزاء، ابحثي عن ذلك الوجه النحيف المستطيل، الذي تظهر منه العروق والزوايا إلى حد ما. رجل هذا البرج غير مجامل إلى حدٍ كبير، فقد تديرين رأسك ثم لا تجدينه في مكانه فجأة، إلا أنه من السهل أن تعثري عليه وتميزيه بطريقته التي ذكرناها في سيره.. طريقة السرعة المضطربة!"
ترتبك خطواتي على رقعة الكلمات المتقاطعة: مشروب عالمي من أصل يمني/ 4 حروف معكوسة، يتململ، يفكر قليلاً وقبل أن يلتقط رأسه الجواب الملائم تصدر معدته صوتاً، أتابع قضم الساندويتش بهدوءٍ مفتعَل، أزيح فتات الخبز عن الحروف الصغيرة، وأتابع قراءة الطالع: "هذا الرجل دائم الإضطراب والحركة والقلق نتيجة عصبيته، لأن في داخله طاقة وشوق ورغبة لاكتشاف المجهول، ومشاركة الآخرين بالحديث والثرثرة والتواصل.. "

يتضاحك عيسى: "لم أتناول شيئاً منذ الصباح، الوقت ضيق .. لم يعد الواحد منا قادراً على سد حاجته من النوم حتى"، أتكاسل عن رفع عينيّ إلى وجهه، ليس ثمة ما يمكن قراءته في تعابيره المضحكة على أية حال، أُدير دفة الحديث باتجاهك، أسأله عنك فيجيب: "لا أدري يا دكتورة، أظن أن حالته لا تستدعي أي اهتمام خاص.. ".


تمر أمام باب المكتب، تومئ لي برأسك، تلتوي شفتاك لتشكلا ابتسامة سيريالية كناية عن أي شيء يصلح لأن يكون تحية، تعبرني نظرتك الخاطفة، أتشبث بخيط الضوء الهزيل النافذ من عينيك .. ولو أني أطيل التشبث به أكثر .. لو أنّه يركُض بسرعة أكبر ليصل إلى عرين الذاكرة حيّاً ..
- دكتورة! عرفتها: "قهوة "!!
.. أو أنه يتبعُني بهدوءٍ إلى الشرفة لأرتشفه مُذوباً في قهوة عينيك وأدلك على السكّة الموشومة برسومات الفحم المبهمة لتقرأني بكل ما أوتيتَ من فضول وحذق.
الحادية عشرة صباحاً: "إن اللحاق به سواء جسدياً أو فكرياً يقطع الأنفاس ويسبب الدوار، فهو يكره الرتابة والنظام - إلا في حال تـأثره ببرج آخر كبرج العذراء مثلا - ولا يرتبط بالمواعيد".
غرفتك تغص بالزوار الذين أستشف من أحاديثهم هشاشة الصِلة الاجتماعية التي تربطك بهم، إلا أن ضحكتك الصاخبة تنسج من الخيوط الواهية أثواباً ملونة يرتديها البياض الخانق فيما بينك وبينهم ليختصر حجم المسافة. تضحك فيرتفع سقف الغرفة قليلاً ليُطلق زفراتك الليلية إلى حتفها الصباحي.. تضحك ثانية فينحدر الأسى على شكل دمعة فرح على وجنتك المكسوة بالزغب الفوضوي.. تضحك فيرتدي وجهك قناع طفلٍ لا يبالي بزلات الملامح المشفِقة/ الشامتة في وجوه الأقارب الأباعد .
سلال الورد الكبيرة تحتل حيزاً كبيراً من المدخل، وسلسلة الأحاديث المتصلة تثنيني مِراراً عن أي محاولة لاجتياز عتبة الباب، عيناي تتنقلان بين الأشكال والألوان المغروسة في السّلال بتكلّفٍ منفّر، وعقاربُ الساعة لا تكفُ عن الجري القلق على بياض الحائط.
يبدو أنك قد لاحظت وجودي بشكلٍ ما، إلا أنك لا تحرك ساكناً. شخصٌ آخر يلاحظني من آخر الممر، يعدو إليّ هاتفاً: دكتورة! أين كنتِ؟ ظننتكِ ستعودين إلى المكتب! الدكتور عماد يطلب مساعدتك في جناح الطوارئ، سأبقى هنا إن كان هنالك ما أساعدك به .. تبدين سارحة، هل هناك ما يزعجك؟ لا تقلقي سأظل هنا ريثما تعودين.. أعرف بأن العمل مرهق هنا، كان الله في عونك.
أبتسم بصعوبة كما في كل مرة أكبت فيها غيظي من صوته المرتفع: اخفض صوتك قليلاً .. هذا جناح للمرضى!
يلتقطني سمعك، يلوح لي شبحُ ابتسامتك الهارب من الغرفة. يكاد يجذبني من طرف معطفي الأبيض، لكن سلال الورد المبعثرة والضحكات وعيسى وعيناك .. أفخاخٌ منصوبة على أطراف الطريق المسدود.
يضحك: آسف! ها ماذا قررتِ؟ هل آخذ مكانك الآن؟
تلتفتُّ إليّ، يتأرجح الجواب على أطراف شفتي: ابقَ هنا.. اعطِه حبتين من الترامادول بعد انصراف الزوار.
ترفع ذراعك لتعدّل من وضعية جلوسك. أقف قليلاً، أراقب أنبوب المغذي المغروس في شريان يدك/ يدي؛ خوفاً من تحرّكه من محله. تعاود شق مجرى الكلام مع الزوار، لأشق طريقي إلى الخارج مخلفة ورائي الطريق والأفخاخ.
"له عينان لا تهدآن تتنقلان من وجه لأخر دون أن تعرف ماذا تريد، يدهشك لأنه قادر علي مسايرة بعض الأجواء التي لا تكون من طباعه، رجل المواقف، ليس عميقا بقدر ما هو صلب وجريء وصاحب كلمة وقاسٍ أحياناً".
مكتبي في آخر النهار يشبهني، حين أعود إليه يبدو كل شيء كما تركته في الظهيرة لولا سحنة الظلام التي تنفث غبار الوحشة في وجهي كلما وقفت على عتبة الباب. أضغط على زر الكهرباء. باقة صغيرة من التوليب الأحمر على الطاولة، وقصاصة صغيرة من صفحة الجريدة المنسية على الطاولة "امرأة عاطفية في قرارة نفسها ومحبة للعطاء، خلاقة، مشرقة وإن كانت سريعة العطب بسبب صدقها وطيبتها".

 


فاطمة إحسان اللواتي
نشرت في ملحق (شرفات) بجريدة عمان 4/12/2012

هناك 4 تعليقات:

  1. صادقة جداً
    أحببتها حتّى النهاية (:

    سريعة هي أنفاسي التي لم تُزامن دقات قلبي: هكذا جعلتني

    سلمتِ/ امتعتني

    ردحذف
  2. سعيدة بمحبتك يا هدى .. لكِ الإمتنان كله = )

    ردحذف
  3. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف